33 دولة تتوحّد في النجف الأشرف: تسامح ومحبة ورحمة!
    

هي مرحلة عصيبة تمرّ بها الأمّة الإسلامية بكلّ ما للكلمة من معنى، مرحلة يسعى خلالها الإرهاب لتغيير قواعد الاشتباك وفرض نفسه اللاعب الأقوى على الساحتين الإقليمية والعالمية..
وإذا كان التغني بمعاني المحبة والسلام لم يعد كافياً في ظلّ ما يصفه البعض بالمؤامرة التي تجتاح المنطقة، فإنّ المواجهة تتخذ اليوم شكل مؤتمراتٍ ومهرجاناتٍ تتوخى إيصال الرسالة الحقيقية للإسلام كدين رحمة ومغفرة كما أنزله الله تعالى ورسوله الذي أنزل "رحمة للعالمين"، وليس حتى للمؤمنين فحسب.

 

من عيد الغدير انطلقنا..
من هذه المؤتمرات "مهرجان الغدير العالمي الذي نظمته العتبة العلوية المقدسة بنسخته الثالثة في مدينة النجف الأشرف في العراق خلال الأيام القليلة الماضية، والذي حضرته "النشرة" بدعوةٍ من العتبة، وشارك فيه أكثر من مئة شخصية عالمية من 33 دولة، بينهم رجال دين ومفكرون ومهتمون بالشأن الثقافي من أصقاع المعمورة.
وتنطلق فكرة المهرجان من وحي عيد الغدير الأغر، الذي قال فيه رسول الله أنه أفضل أعياد أمّته، "وهو اليوم الذي أمرني الله تعالى ذكره فيه بنصب أخي علي بن أبي طالب علمًا لأمتي، يهتدون به من بعدي، وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأتمّ على أمتي فيه النعمة، ورضي لهم الإسلام دينًا". كما يُروى أيضًا في السياق عينه عن الإمام الصادق قوله انّ هذا اليوم هو عيد الله الأكبر، إذ "ما طلعت عليه شمس في يوم أفضل عند الله منه، وهو الذي أكمل الله فيه دينه لخلقه، وأتمّ عليهم نعمه، ورضي لهم الإسلام ديناً، وما بعث الله نبيًا إلا أقام وصيه في مثل هذا اليوم".
من هنا، فإنّ "مهرجان الغدير العالمي"، كما يقول منظّموه، يسعى لإعادة قراءة عيد الغدير وتطبيقه على الواقع الراهن، خصوصًا أنّ هذه الواقعة كان يفترض أن تشكل نقلة نوعية في حياة الأمّة الإسلامية بعد رحيل النبي محمد، في وقتٍ استطاع الإمام علي أن يجمع الأمّة الإسلامية تحت رايته ونهجه القائم أصلاً على الاعتدال والسلام والمحبة، في مشهدٍ مناقضٍ لكلّ ما نشهده اليوم من موجات تطرّفٍ وتكفير.

رسائل بالجملة..

 

 يشير منظمو المهرجان إلى أنّ رسائل بالجملة ينطوي عليها لا يمكن تجاهلها لا شكلاً ولا مضمونًا. ولعلّ أولى هذه الرسائل هي رسالة نحن أحوج إليها في واقعنا المعاصر المرّ، من حيث التلاقي بين المكوّنات الطائفية والمذهبية المختلفة للمجتمعات البشرية في مرقد إمام الإنسانية، كما يصفه الكثيرون، وقد تجسّد ذلك في حفل الافتتاح الذي تناوب فيه على الكلام ممثلون للطوائف الإسلامية الشيعية والسنية والمسيحية وغيرهم، كما سُجّلت في هذا الإطار مشاركة لافتة للفاتيكان في أعمال المؤتمر من خلال ممثل الرهبنة في روما الراهب المونسنيور إيميليانو، وكذلك لممثل دار الإفتاء في الجمهورية اللبنانية الشيخ بلال الملا، وممثل المجلس الشيعي الأعلى في لبنان السيد علي مكي.

برأي المنظمين، فإنّ هذه الصورة الجامعة هي رسالة بحدّ ذاتها، رسالة يعزّزها مضمون المهرجان وفاعلياته والتي تؤكد أنّ التلاقي لا يزال في الصدارة شاء من شاء وأبى من أبى، وأنّ معاني المحبة والسلام والعيش المشترك لا تزال حاضرة بكلّ ثقلها في ضمائر الشعوب في كلّ العالم، وهنا نقطة مضيئة في زمنٍ يقول البعض أنه ظلاميٌ بامتياز. ويشدّد المنظمون هنا على أنّ لا شروط تُفرَض على "الخطباء" على الإطلاق، بمعنى أنّ كلماتهم لا تخضع لأيّ مراجعة بأيّ شكلٍ ولا يتمّ تقييدها حتى بمواضيع معيّنة، ويقولون أنّ للضيوف الحرية الكاملة لقول ما يشاءون قوله دون أيّ مساءلة لا سابقة ولا لاحقة.

 

العراق لن يستسلم..
رسالة أخرى يحملها المهرجان من حيث موقعه الجغرافي، في مرقد الإمام علي عليه السلام، وبشكلٍ أكثر تحديدًا في العراق الجريح النازف منذ سنواتٍ طويلة، والذي وصله الخطر "الداعشي" في الأشهر القليلة الماضية. هنا، أراد المنظمون القول أنّ العراقيين لن يستسلموا للإرهاب ونواياه الإجرامية، وأكدوا أنهم قادرون رغم كلّ المحن والآلام على تنظيم مهرجاناتٍ ترقى لمستوى العالمية. وقد أشاد معظم المشاركين في المهرجان بالتنظيم الضخم والمحترف لهذا المهرجان.
وهنا، تستوقف المتابع الإجراءات الأمنية الاستثنائية التي واكبت المهرجان، وعناصر الحماية التي تمّ فرزها للشخصيات والوفود المشاركة فيه، علمًا أنّ معلوماتٍ تسرّبت عن تهديداتٍ أمنية تلقاها المعنيون خلال الأيام القليلة التي سبقت المهرجان، منها تحذيراتٌ من عمليات خطفٍ لأجانب أو شخصياتٍ رفيعة المستوى، فضلاً عن خروقٍ أمنية ممكنة، وذلك على الرغم من أنّ مدينة النجف تُعتبَر آمنة إلى حدّ ما، أقله نسبيًا بالمقارنة مع محافظاتٍ عراقيةٍ أخرى.

 

التطوير يبقى الأساس..

رفض منظمو المهرجان "المدائح" التي يكيلها البعض يمينًا وشمالاً. هم يحرصون على الاجتماع مع الوفود المشاركة قبل مغادرتها للاستماع إلى تقييمها للأداء، ولا سيما في جانبه السلبي. برأيهم، فإنّ هذه الانتقادات، أو ربما التوصيات، هي التي يُبنى عليها للتطوير مستقبلاً وتحقيق الأهداف المرسومة بالشكل المطلوب، بل إنهم لا يتردّدون في أن يكونوا "سبّاقين" في هذا "النقد الذاتي"، بقولهم أنّ البحوث العلمية التي تُفرَد لها مساحة واسعة في المهرجان يفترض أن تكون على مستوى أعلى من الحرفية.
ومن الأفكار الأساسية التي يطرحها بعض المشاركين أيضًا، أن يكون هناك "نتائج عملية" للمهرجان، بمعنى أن تصدر عنه وثيقة رسمية أو إعلان نوايا أو مقرّرات رسمية يتمّ إعلانها ببيانٍ ختامي، باعتبار أنّ "الإنشاء" لم يعد كافيًا اليوم للمواجهة، والمطلوب خطوات جادة وعملية تضع حدًا لكلّ الممارسات الشاذة والمشوّهة للتعاليم الدينية الحقيقية.

 

علاماتٌ مبشّرة..
رغم كلّ ما قيل ويُقال وسيُقال، يبقى المشهد بحدّ ذاته أكثر من معبّر، فأن يقف ممثل دولة الفاتيكان في حضرة الإمام علي قائلاً أنّ الجرائم التي تُرتكَب لا تنتمي إلى الدين بل هي إهانة لله وخيانة لكلامه، وأن يخرج ممثل دار الإفتاء في لبنان للتمثل بنهج الإمام علي الذي لم يطلب الحكم للجاه أو السلطة أو ليكون ملكًأ، بل كان جلّ همّه إحقاق الحق وإقامة العدل، لهي علاماتٌ مبشّرة دون أدنى شكّ..
لكن يبقى أنّ هذه العلامات المبشّرة تبقى بحاجةٍ لترجمةٍ عملية، ترجمة لا تزال غير مكتملة اليوم، طالما أنّ هناك من لا يزال يحتضن للأسف الشديد الفكر الإرهابي التكفيري، وطالما أنّ هذا الفكر لا يزال يحظى بدعمٍ لم يعد خافيًا على أحد، في العلن والسرّ..

 حسين عاصي

محرر الموقع : 2014 - 10 - 23