ملاحظة لغوية عن كلمة في دعاء كميل لأمير المؤمنين علي عليه السلام‎
    

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله محمد وآله الطيبين المعصومين.

نرجو من سماحتكم حفظكم الله النظر في الاستفسار الآتي، وإفادتنا وفقكم الله ودام ظلكم.

نقرأ في دعاء كميل قول أمير المؤمنين عليه السلام:

"...ولأناديكَ أينَ كنتَ يا وليَّ المؤمنينَ." كتبت كلمة "كنت" في الدعاء محركة بالفتح بصيغة المخاطب، والناس يقرئونها كما كتبت، أي أنه عليه السلام يخاطب الله عز وجل ويشير إليه بالمكان. وأرى أن في ذلك إشكالا ينافي ويتعارض مع فكر الإمام (ع) عن الله سبحانه، كما ورد في أكثر من موضع. فرأي الإمام (ع)، وهو رأي الإسلام، ينفي عن الله تعالى أن يشار إليه بكلمة "أينَ"، لأن في ذلك إشارة إلى المكان. والله تعالى هو الذي خلق المكان والزمان.

جاء في نهج البلاغة ما يأتي عن الله سبحانه:

  1. "من جهلهُ فقد أشار إليهِ، ومن أشار إليه فقد حدّهُ، ومن حدّه فقد عدّهُ." (الخطبة # 1). إن قول "أينَ كنتَ" تفيد معنى الإشارة إليه تعالى بالمكان.
  2. "...ما اختلف عليه دهرٌ فيختلفُ منه الحال، ولا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال...وأشهد أن من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك والعادل بك كافر بما تنزلت به محكمات آياتك، ونطقت عنه شواهد بيناتك ." (الخطبة # 91). وهذا قول صريح يبين بأن الله سبحانه لا يحويه مكان معين. "و للهِ المغربُ والمشرقُ، فأينما تولّوا فثمَّ وجهُ اللهِ إنَّ اللهَ واسعٌ عليمٌ."  
  3. "...ومن قالَ أينَ فقد حيّزهُ. " (الخطبة # 152 ). ينكرالإمام عليه السلام على من يقول عن الله تعالى أين لأنه بهذا الكلام يجعله مقيدا في حيز محدود.
  4. "...لا تقدره الأوهام بالحدود والحركات...تعالى عما ينحله المحددون في صفات الأقدار ونهايات الأقطار وتأثل المساكن وتمكن الأماكن؛ فالحد لخلقه مضروب، وإلى غيره منسوب."  (الخطبة # 163 ). ينزه أمير المؤمنين عليه السلام ربه سبحانه بأن يقدره أحدٌ حدودا له بالأوهام، أو يشير إليه بالحركات؛ فالإمام (ع) يبرؤه من تمكن الأماكن. .
  5. "...لا يشغله شأنٌ ولا يغيره زمان ولا يحويه مكانٌ." (الخطبة # 178). تصريح واضح بأن الله تعالى لا يحويه مكان.
  6. "...ولا ينظرُ بعينٍ، ولا يُحدُّ بأينٍ." (الخطبة #182). الأين هو المكان، وقوله عليه السلام يعني أنه سبحانه لا يحد بمكان.
  7. "...الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولاتحويه المشاهد." (الخطبة # 185). والمشاهد هي الأمكنة، التي لا يمكن أن تحويه سبحانه.
  8. "...ولا يجري عليه السكونُ والحركةُ، وكيف يجري عليهِ ما هوَ أجراهُ."  (الخطبة # 186).إن السكون والحركة يكونان في حدود المكان، وهذه الكلمات من الإمام (ع) تنفي المكان عن الذات العلية.
  9. "... وإنَّ اللهَ سبحانهُ يعودُ بعدَ فناءِ الدنيا وحدهُ لا شيءَ معهُ، كما كانَ قبلَ ابتدائها، كذلكَ يعودُ بعدَ فنائها. بلا وقتٍ ولا مكانٍ، ولا حينٍ ولا زمانٍ. عدمت عند ذلك الآجالُ وألأوقاتُ، وزالت السنونُ والساعاتُ." (الخطبة # 186). إذا كنا نشير إليه سبحانه بكلمة أين كنتَ فمعنى ذلك أننا نشير إلى مكان وجوده  تعالى. فإذا فني الزمان والمكان كما يخبرنا الإمام (ع)، فهل يفنى معهما من هو فيهما؟ حاشا  لله الأول والآخر. الدائم أبدا؛ خالق الزمان والمكان. قال تعالى: "كلُّ من عليها فانٍ. ويبقى وجهُ ربِّكَ ذو الجلالِ والإكرامِ." وكما وصفه الإمام السجاد عليه السلام:  "الأول قبل الإنشاء والإحياء، والآخر بعد فناء الأشياء." (الصحيفة السجادية.)
  10. "...لا يشمل بحدٍّ ولا يحسبُ بعدٍّ...و لا يقال له حدّ ولا نهاية...ولا أن الأشياء تحويه فتقٌلّهُ أو تهويه. " (الخطبة  # 186). المكان شيء من الأشياء، وهو مما خلقه الله تعالى، فلا يعقل أن يحويه شيء هو من مخلوقاته.
  11. جاء في الأخبار أن أحدهم سأل أمير المؤمنين عليه السلام: أين كان الله قبل أن يخلق الكون؟ فأجابه الإمام (ع): "أنت تسأل عن الله تعالى بكلمة أين، وهذ سؤال عن المكان، ولقد كان الله ولا مكان." (المعذرة إن كنت أروي هذا الحديث بالمعنى، وليس بضبط كلماته). كما يعلمنا أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "ولا تقدروا الله على قدر عقولكم فتهلكوا."

 

أتصور، على قلة علمي، أن كلمة "كنت" في الدعاء كان أصلها أن تلفظ محركة بالضم، بصيغة المتكلم، بما يعني أن الإمام عليه السلام يشير إلى نفسه بالمكان قائلا: "أين كنتُ."  يعني أينما يكون المتكلم وهو الإمام (ع)، وليس "أين كنتَ" بصيغة المخاطب، وهو الله سبحانه، فهل يمكن للإمام أن يشير إلى الله سبحانه بالمكان، وهو الذي ينفي عنه حدود المكان والزمان؟ وربما يكون تحريك هذه الكلمة بالفتح أنه كان خطأ من النساخ لهذا الدعاء، والذي قاله أمير المؤمنين في وقت لم تكن رموز الشكل والإعراب قد دخلت العربية بعد، وإنما أدخلها في الكتابة العربية  أبو الأسود الدؤلي تلميذ الإمام بعد وفاة الإمام (ع)؛ ثم استنسخه النساخ  الواحد بعد الآخر، وبعد أن تم الأخذ برموز الشكل وعلامات الإعراب أضافوا رموز الحركات وحركوا هذه الكلمة بالفتح خطأً، ولم يغيرها أحد ممن جاء بعدهم خشية أن يكون هناك محذور في تغييرهم لما نقل واستنسخ مكتوبا عن أمير المؤمنين عليه السلام؛ والله أعلم.  كما أن هناك احتمال آخر لهذا الاشتباه وهو أن الكلمة التي تسبق "أنت" وهي  "كنت" محرك آخرها بالفتح، فحركوا آخر الكلمة التي تليها مباشرة وهي: "أنت" بالفتح أيضا تحت تأثير قاعدة "الإتباع" الصوتي، وهي قاعدة معروفة بالنظام الصوتي للعربية. هناك مثال مشهور عند النحاة في الإتباع، فذكروا قولهم: "هذا جحرُ ضبٍّ خربِ" فكسروا آخر "خرب" تحت تأثير المجاورة للكلمة التي قبلها وهي: "ضبٍّ" المكسورة، بينما حكمها الضم لأنها وصف للجحر وليس للضب.

 

من الفرائض علينا أن ننقل علوم أهل بيت النبوة عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام بإتقان وضبط ووعي ورعاية، وأن نتعلم ما فيها كما قالوها وقصدوها، وأمرونا أن نسترشد بالقرءان الكريم فيما يشكل علينا منها. قال أمير المؤمنين عليه السلام: "اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية. فإن رواة العلم كثير، ورعاته قليل." (الحكمة # 98). فعلينا الحذر كل الحذر فيما يصل إلينا، وأن ندقق النظر فيما يردنا من أخبار مكتوبة، فقد يخطأ النساخ وهم بشر. ومن الخطاء ما قد يكون خطيرا، والناس تعودوا أن يأخذوا بما هو مكتوب بلا نقاش أو شكوك. 

 

خادمكم العبد الفقير إلى الله: الدكتور عبد المنعم الناصر، نيوزيلند

محرر الموقع : 2016 - 02 - 07