هل ستصبح تقاليدنا وقيمنا الاجتماعية الاصيلة في خبر كان ؟
    

تحقيق / طالب العنزي 
كانت التقاليد والقيم الاخلاقية المتوارثة والاصيلة جزء من ثقافتنا وكينونتنا التي نفخر بها ايما فخر ،ولكن وبسبب الظروف التي مر بها المجتمع العراقي خلال الثلاث عقود او الاربعة الماضية ظهرت سلوكيات منحرفة لتزيح التقاليد التي ترمز للتماسك الأسري والتكافل الاجتماعي والتراحم بين النّاس ومساعدة الفقراء والمستضعفين وتشجيع أعمال الخير واحترام الأبوين وكبار السن والعلماء والتزام الأدب في المجالس والعلاقات الاجتماعية وحسن استقبال الضيف وإلقاء السلام وحضور مجالس العلم والذكر والعبادة والمشاركة في الأفراح والتعزية في الأموات وإدانة العنف والعدوان والوقوف في وجه رموز الفساد والشرّ والانحلال الأخلاقي، الى غيرها من التقاليد الاصيلة التي انتجها التلاقح الفريد والمتميز بين قيمتين كبيرتين ومهمتين يتميز بهما العراق عن غيره من سائر البلدان ، هما البداوة والتمدن ، وكلها تقاليد تحقق أهدافاً اجتماعية نبيلة وسامية من خلال التحقيق التالي ناقشت موضوع التقاليد الاجتماعية واسباب انحسار بعضها وتاثير ذلك على البنية الاجتماعية بين المكونات العراقية وزيادة الفجوة بينها ..
 ازمة اجتماعية تبحث عن حلول
يقول استاذ علم الاجتماع  وعميد كلية الاداب في جامعة بغداد الدكتور صلاح الجابري ، ان  توقف الأحداث المنظمة والمتوقعة واضطراب العادات تتسبب بازمة اجتماعية ، ما يستلزم التغيير السريع لإعادة التوازن، ولتكوين عادات جديدة أكثر ملائمة فالأزمة الاجتماعية التي يمر بها المجتمع العراقي اليوم هي حالة توتر ونقطة تحول تتطلب قراراً تنتج عنه مواقف جديدة سلبية كانت أو إيجابية تؤثر على مختلف الكيانات ذات العلاقة ما يقتضي ضرورة المبادرة بحلها قبل تفاقم عواقبها . إذ ان الخلل الاجتماعي الذي سببته سياسات  الانظمة الحاكمة  أتاحت فرصة كبيرة لإدارة الاحتلال الامريكي منذ 2003 ، في التأسيس للمحاصصة الطائفية للتشجيع على تصعيد الاحتقان الطائفي داخل بنية المجتمع العراقي بعد الاحتلال في حالة من الانفلات الأمني والركود الاقتصادي وتفشي البطالة الأمر الذي صعب على المجتمع العراقي تركيز جهوده في التعامل مع واقعتي سقوط النظام والاحتلال، إذ استحوذ التدهور الأمني على جانب كبير من اهتمامات المواطنين العراقيين ، واختلط تقييم التطورات السياسية والاجتماعية الجارية في العراق بتقييم الوضع الأمني فيه ، الأمر الذي منع تبلور رؤى سياسية محددة إزاء التطورات في العراق ، ما أدى إلى الانزلاق شيئا فشيئا إلى أزمة اجتماعية مزمنة تصاعد اوارها وتفاقمت وتجلت مظاهرها  بالعنف الطائفي وكادت تؤدي بالعراق إلى الانزلاق إلى أتون حرب أهلية لا تحمد عواقبها.
وقد أدى ظهور الكم الهائل من الأحزاب والقوى السياسية على ساحة العمل السياسي بعد الاحتلال الى حالة من الصراع السياسي وصل إلى درجة استخدام العنف والتصفيات الجسدية بين تلك القوى والأحزاب في مسعاها من اجل تثبيت موقعها ضمن العملية السياسية التي جرت بعد انسحاب الاحتلال ، الأمر الذي ألقى بظلاله على البنية والنسيج الاجتماعي تمظهر بمحاولات تمرد وتظاهر وتذمر اجتماعي واضح ما بات يعتبر أزمة اجتماعية تتطلب دراستها والتصدي لحلها وتفكيك مبررات استمرارها  .
عناصر الأزمة الراهنة
 ويرى استاذ علم الاجتماع وعميدة كلية الاداب في الجامعة المستنصرية الدكتورة فريدة جاسم انه ومن خلال نظرة موضوعية محايدة الى العناصر التي تشكل ملامح الازمة الاجتماعية نجدها تتألف مما يأتي:
-وجود خلل وتوتر في العلاقات بين المكونات المجتمعية.
-ضعف القرار المركزي المطلوب لقيادة المجتمع في مثل هذه الظروف الاستثنائية .
-تسارع المتغيرات والاحداث نتيجة تأثيرات داخلية وخارجية.
-تعتبر الازمة المجتمعية الراهنة نقطة تحول قد تكون إلى الأفضل أو الأسوأ حسب اسلوب معالجتها.
-الزمن يمثل قيمة حاسمة في معالجة وحل الازمة الاجتماعية .ان ما يحدث اليوم في مجتمعنا من أزمة واضحة المعالم ما هي الا تعبير عن تصادم إرادات وقوى سياسية محضة ودينية-سياسية .
استاذ علم النفس في جامعة بغداد الدكتور حسين محمد القريشي
ان الموقف النفسي الذي انتج الازمة الاجتماعية الراهنة يتسم بالخصائص التالية:
-تصاعد حالة النزوع إلى الفعل ورد الفعل لمواجهة الظروف الاجتماعية الطارئة .
-الشعور المجتمعي بالشك في القرارات المطروحة لمعالجة الازمة المجتمعية .
-الصعوبة البالغة أمام صانعي القرار والقيادات في  التحكم بالأحداث.
-ضغط الوقت والحاجة إلى اتخاذ قرارات صائبة وسريعة لمعالجة العوامل التي سببت الازمة المجتمعية.
-التداخل والتعدد في الأسباب والعوامل الداخلية مع الاجندات والمصالح الخارجية التي فعلت وصعّدت من حدة الازمة الاجتماعية.
-سيادة حالة من الخوف والهلع النفسي  قد تصل إلى حد الرعب من عودة الاوضاع الاجتماعية الى ما كانت عليه في 2005 و2006 .
-الخطورة الكبيرة للازمة الراهنة باعتبارها التهديد الشديد للمصالح والأهداف، تهدد بانهيار كيان الدولة ووحدة ترابها الوطني.
القيم الأصيلة والتقاليد التي تربى عليها هذا الشعب، بقيت راسخة ولم تهزها الضغوط والمعاناة المتوالية، رغم التاريخ العاصف، لهذا البلد، الذي كان يبلغ أشدّه أبان الغزوات الهمجية، التي مرّت عليه خلال حقب متوالية، مثل غزوات المغول، والعثمانييّن والوهابييّن، لكن ما حدث خلال تسعينيات القرن المنصرم، وما يحدث اليوم في العراق، بعد سقوط النظام في 2003 وبعد هذه الهزّة العنيفة التي تعرض لها المواطن، وبنية المجتمع العراقي، يحاول البعض أن يغلف سلوكياته المشينة والمنحرفة، بغطاء القيّم والتقاليد المعتبرة، ليبرر لنفسه سلوكه المعوّج، أو أن تلك الممارسات قد تلبست لبوس العادات والتقاليد الأصيلة، لتبرز بطريقة وكأنها مشروعة رغم سلبيتها وقباحتها.
صور اجتماعية مختفية 
الصحفي قاسم المالكي تحدث عن بعض الصور الاجتماعية التي كانت سائدة الى عهد قريب وكان لاختفائها دور كبير في توسيع الهوة بين العوائل العراقية وبالتالي تمزيق النسيج الاجتماعي للمجتمع العراقي ، حيث قال : انت تذكرني بأم علي المعروفة بخبزها اللذيذ والتي كانت تضعه بيدها النقية وبنفسها الطيبة التي يجتمع حولها الصبية من ابناء الجيران لتعطي كل طفل رغيفاً او رغيفين لان اهلهم على موعد مع ام علي ويعرفون متى (تشجر) التنور وبأي وسيلة حيث لم تعرف امهاتنا بعد تنور الغاز او تنور الفحم .. كانت ام علي تشعل النار بشكل هادئ .. اي تجعل رغيف الخبز يأخذ راحته في الشواء على نار هادئة .. حيث كانت تستعمل حطب الشوك والاشجار المتيبسة والكرب الذي يتحول الى جمر التي تجعل التنور باعلى درجات الحرارة .. وما تبقى من جمره يستغل لشواء السمك .. او ذلك «القوري» والذي تشم منه رائحة الهيل على بعد كيلو متر .. لتعلن للقادمين الى ذلك الحي الذي تسكنه ام علي بانهم على مقربة من ذلك الشاي (المهيل) والخبز الحار .. خبز البركة والعافية لكل الذين يفوزن برغيف او رغيفين من هذه المرأة العظيمة التي مازالت تشكل ارثا وتقليداً نادراً ما تحسه هذه الايام ..هذه الصورة الجميلة والملونة بازاهير الود تحمل معها حكايات ذات نكهة بغدادية اصيلة  لم نعد نجدها اليوم ..الشواكة … والجعيفر … وشيخ صندل .. والكرخ والدوريين وعلاوي الحلة .. والكاظمية والكسرة والاعظمية وابي سيفين .. والشيخ علي وباب الشيخ وقنبر علي وابو دودو والقاهرة .. والكريعات وكرادة مريم .. والوزيرية .. مناطق ومحلات .. اختفت فيها هذه التقاليد المباركة المملوءة بالصدق وتناحرت معها كل الحكايات التي كانت تشكل ارثا وتاريخياً لبغداد واهلها … والعاشقين والمحبين لجيرانهم اكثر من حبهم لانفسهم .

محرر الموقع : 2015 - 01 - 28