حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الإجتماع الديني والسياسي/ (كتاب في حلقات)? الحلقة الثامنة
    

حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الإجتماع الديني والسياسي

(كتاب في حلقات)

الحلقة الثامنة

 

بقلم: د. علي المؤمن

 

 

دور الإمام الصدر في تأسيس حزب الدعوة وقيادته
       السيد محمد باقر الصدر هو أبرز المؤسسين العشرة لحزب الدعوة الإسلامية؛ بل أن أداءه ودوره أفرزاه قائداً للحزب في البعدين الفكري والإرشادي. وقد كان الحديث عن كون السيد الصدر مؤسساً للدعوة؛ متداولاً  في أوساط الحزب منذ الستينات، ثم برز أسمه قائداً للحزب خلال عام 1979؛ بعد تفجير الصدر للتحرك المعارض لنظام البعث في العراق، ولكن تقدم السيد الصدر على باقي المؤسسين والقياديين في توجيه بوصلة حزب الدعوة خلال 1957 الى 1961، ثم بقائه مرشداً لحزب الدعوة وداعماً له؛ يحظى بقرائن كثيرة؛ الى المستوى الذي أقنع أجيال الدعاة والمؤرخين والمراقبين بأن السيد الصدر هو المؤسس الواقعي لحزب الدعوة وقائده الروحي ومرشده حتى استشهاده العام 1980، ومن تلك القرائن: 
 1- إن السيد محمد باقر الصدر هو أحد الخمسة الأوائل الذين ناقشوا فكرة الحزب بعمق ودقة، وأقرّ العمل على وفقها، ثم أنه أبرز المؤسسين العشرة للدعوة.

فقيه الدعوة
2- إن السيد محمد باقر الصدر ظل فقيه حزب الدعوة ومنظره وقائده الفكري؛ فقد أسس النظرية الفقهية لحزب الدعوة؛ التي دونها في بداية طرح فكرة الحزب العام 1956، والتي استدل فيها على جواز إقامة تأسيس الدولة الإسلامية في عصر غيبة الإمام المهدي المنتظر، وإمكانية سعي جماعة إسلامية لتحقيق هذا الهدف، ولولا نظريته هذه لما تأسس حزب الدعوة، وهي في الواقع نظرية تأسيسية في الفقه السياسي الإسلامي الشيعي لم يسبقه فيها فقيه شيعي. كما كتب السيد الصدر أسس حزب الدعوة الإسلامية؛ المعروفة بالأسس الإسلامية؛ والتي تمثل الأسس الفقهية والفكرية والسياسية للحزب، ولا تزال تمثل قاعدة حركة حزب الدعوة. وظل المؤسسون وقياديو الدعوة يعودون الى السيد الصدر في التكييفات الفقهية والفكرية، وكان صاحب المبادرة في هذا المجال. وقد كان السيد الصدر الفقيه الوحيد في الحزب، وكان وجوده في الحزب أساسياً؛ لمركزه العلمي في الحوزة العلمية النجفية، و لحاجة الحزب الى فقيه يتقدمه في مواجهة الإشكاليات التي يمكن أن تطرحها بعض أوساط الحوزة ضد الحزب، وبالتالي فكثير من اهتمام المؤسسين كان منصباً على الإجابة على إشكاليات الفكر الفقهي التقليدي وتسويغ عملهم أمام المشككين في أوساط المنظومة الدينية الشيعية التي كانت لا تستسيغ العمل السياسي عموماً، والعمل الحزبي خصوصاً. 

القيادة الرباعية
3- كان السيد الصدر يدير الاجتماعات التحضيرية والتأسيسية في النجف الأشرف، وأدار اجتماع أداء القسم في كربلاء، وكان المفروض أن يكون أول من يقسم  قسم الانتماء للحزب؛ لولا إصراره على أن يكون السيد مرتضى العسكري أول من يؤدي القسم؛ باعتباره أكبر الأعضاء سناً (كان عمر العسكري آنذاك 45 سنة والصدر 22 سنة)، وأقسم بعده السيد محمد باقر الصدر قسم الانتماء للحزب مباشرة؛ فكان ثاني من يقسم. 
4- اختار السيد الصدر للحزب اسم “الدعوة الإسلامية”، ونظّر لهذه التسمية كثيراً، ولم يكن اسماً؛ بل صفة وغاية وهدفاً ووظيفة.
 5- كان السيد الصدر العضو الأبرز في القيادة الرباعية الأولى (وإن لم تكن تسمى حينها قيادة رسمياً؛ بل تسمى لجنة العمل) التي تألفت بعد مرحلة التأسيس؛ والمؤلفة من السيد محمد باقر الصدر والسيد مهدي الحكيم وعبد الصاحب دخيل والسيد مرتضى العسكري، وكان الصدر يدير اجتماعاتها، وبمثابة أمينها. 

رد المرجعية على البعث
6- كان المشهور في مركز القرار الحوزوي النجفي والإيراني وأوساط المرجعيات الدينية، وقيادات الأحزاب السياسية العراقية واللبنانية والإيرانية؛ بأن السيد محمد باقر الصدر هو مؤسس حزب الدعوة الإسلامية ويقوده، فقد كشف حزب البعث العراقي هذا الأمر في وقت مبكر؛ فقام في عام 1961 أحد قيادييه في النجف (حسين الصافي) بزيارة المرجعين السيد محسن الحكيم والسيد ابو القاسم الخوئي؛ وأبلغهم بخطورة الحزب الجديد الذي أسسه الصدر ويقوده؛ فكان جواب السيد الحكيم للصافي وهو ينهره: ((وهل تتصور أنك أحرص من السيد الصدر على الحوزة والنجف؟))، وكان جواب السيد الخوئي له: ((إذا كان السيد الصدر قد أسس هذا الحزب ويقوده؛ فأنا أول من ينتمي إليه))، وقد روى ذلك لي الشيخ محمد باقر الأنصاري الذي كان حاضراً اللقاء. كما روى لي السيد موسى الخوئي أنه تحدث مع جده الإمام الخوئي حول الشائعات التي كان يثيرها بعض حاشية (مكتب) السيد الخوئي ضد السيد الصدر أمام الوفود الطلابية التي كانت تزور النجف للقاء المرجعيات الدينية، ومنها شبهة كون السيد الصدر حزبياً وأنه يقود حزب الدعوة، فقال الإمام الخوئي لحفيده السيد موسى: (( إذا كان محمد باقر الصدر في حزب الدعوة فأنا أيضاً سأكون في حزب الدعوة)). ونقل السيد كاظم الحائري عن المرجع الديني الإيراني السيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي، أنه امتدح السيد الصدر حين طرح بعض علماء الدين في ايران أواخر الخمسينات موضوع تأسيس السيد الصدر لحزب الدعوة. كما أني اطلعت على وثيقة سرية لحزب “تودة” الشيوعي الإيراني صادرة في عام 1962 يؤكد فيها وجود حزب إسلامي شيعي في العراق اسمه حزب الدعوة ويقوده السيد محمد باقر الصدر، وكانت هذه الوثيقة ضمن محفوظات “السافاك” الإيراني (مخابرات الشاه). ومن المعروف أن بعض كوادر وقيادات حزب “تودة” الإيراني والحزب الشيوعي العراقي كان يتبادل المواقع التنظيمية بين الحزبين، فضلا عن تبادل المعلومات بينهم لمواجهة الحركة الدينية في العراق وإيران.

 الدعاة الأوائل
7- إن معظم تلاميذ السيد الصدر كانوا من الدعاة الأوائل أو دعاة المراحل اللاحقة، وأصبحوا من قيادات الحزب وكوادره فيما بعد، وكان هو الذي يبادر بتحريك بعض تلاميذه لضم زملائهم الآخرين الى الحزب، وانتهى الأمر في عام 1979 الى أن يكون ما يقرب من 60 بالمئة من تلاميذه، وحوالي 80 بالمئة من وكلائه في المدن العراقية كافة؛ أعضاء في حزب الدعوة. وبعد أن أصدر السيد الصدر حكمه الشرعي بفصل العمل الحزبي عن الحوزة العلمية في عام 1973؛ بهدف حفظ الحوزة العلمية النجفية والمرجعية الدينية وحزب الدعوة؛ فإنه استثنى بعض تلامذته داخل العراق، وكذلك وكلاؤه في المدن وتلامذته في خارج العراق؛ حرصا على عدم إضعاف مسيرة الحزب وتنظيماته، وقد ألغى السيد الصدر حكمه نهائيا من خلال رسالته التي حملها تلميذه السيد عبد الكريم القزويني الى قيادة الحزب خلال تواجدهم في مكة المكرمة في موسم الحج العام 1979. 
8- لم يحصل خلاف فكري أو منهجي أو سياسي مهم بين السيد الصدر وحزب الدعوة أو قيادته طيلة حياته، أما الحالات التي أدت الى خلافات في الرأي والتوجه الميداني؛ فكان ذلك يدل على التلاحم بين الطرفين، وتدخل السيد الصدر المباشر في شؤون الحزب، وهو أمر طبيعي يحصل في كل الأحزاب والتيارات والتنظيمات؛ فقد كانت الخلافات النظرية الميدانية والمزاجية بين أعضاء قيادة حزب الدعوة أنفسهم أكبر بكثير من أي خلاف مع السيد الصدر؛ صحيح إن السيد الصدر كان يبدي انزعاجه من تصرفات بعض قياديي "الدعوة" في الخارج وتصريحاتهم وكتاباتهم؛ كالشيخ علي الكوراني بالتحديد؛ ولكنها عموماً كانت تباينات لا تتجاوز الخلاف بين أبناء البيت الواحد. 

التنظيم العسكري
9- كان السيد الصدر بعد عام 1974، وعلى إثر الضربتين الموجعتين اللتين وجهتهما دولة حزب البعث لحزب الدعوة؛ يجتمع مباشرة بالدعاة العسكريين والقائمين على التنظيم العسكري، ويدعوهم الى تقوية التنظيم العسكري؛ لأنه الوحيد ـ في ظل القمع الشديد والإعدامات المتوالية ـ القادر على كبح جماح السلطة، وكان أحياناً يبدي عدم رضاه على حجم هذا التنظيم ويدفعه باتجاه الفاعلية الأكبر كمّاً ونوعاً، وبدأ من ذلك التاريخ يخصص للتنظيم العسكري أموالاً مما يصله من حقوق شرعية وحتى استشهاده.
10- كان السيد محمد باقر الصدر حتى تاريخ استشهاده يدعو من يجتمع به من قيادة حزب الدعوة في الداخل ووكلائه ومعتمديه "الدعاة" في المدن العراقية بضرورة النهوض بعملية ضم الشباب المتدين الى حزب الدعوة. وقد نقل لي عدد من وكلائه ومعتمديه؛ كالسيد حسن شبر والشيخ عبد الحليم الزهيري؛ بأن السيد الصدر في اجتماعاته الخاصة بهم في أواسط عام 1979 كان يؤكد  توسيع التنظيم وضم شباب جدد إليه، كما كان يجتمع بقيادة حزب الدعوة في الداخل مباشرة ويوجههم ويتابع عملهم، ولم تكن قيادة الداخل تخطو أي خطوة ستراتيجية دون الرجوع اليه، ومن بين من كان يجتمع بهم من القياديين بانتظام: السيد حسن شبر ومهدي عبد مهدي وجواد الزبيدي.

الوقوف بوجه صدام
11- ظل السيد الصدر خلال عامي 1979 و1980 يكرر توصيته الى مقربيه بالاهتمام بحزب الدعوة وبشبابه، وقد سمع مقولاته المتواترة المشهورة ((أوصيكم بالدعوة خيراً فإنها أمل الأمة)) و((أوصيكم بشباب الدعوة فإنهم أملي)) كثير من تلامذته ومقربيه، ومنهم السيد محمود الهاشمي والسيد محمد باقر الحكيم والسيد حسن شبر والشيخ محمد رضا النعماني، ونقلوها عنه مباشرة.
12- رفض السيد الصدر رفضاً قاطعاً طلب صدام المتكرر إصدار فتوى بحرمة الانتماء لحزب الدعوة مقابل إيقاف قرار إعدامه؛ ولكنه فضّل الموت على ذلك؛ ولذلك كان حكم إعدامه طبقاً للقرار 461 الصادر في 31 آذار من عام 1980، على وفق المادة 156 عقوبات، والقاضي بإعدام كل من ينتمي الى حزب الدعوة ويروج افكاره ويعمل على تحقيق أهدافه.
     وهناك قرائن ثانوية تشير جميعها الى أن السيد محمد باقر الصدر كان أبرز مؤسسي حزب الدعوة؛ بل أن مسيرة التأسيس وسنوات الحزب الأولى أفرزته القيادي الأكثر تأثيراً؛ رغم أنه كان أحد الأعضاء الأصغر سناً بين المؤسسين العشرة؛ إذ كان السيد محمد باقر الحكيم الوحيد الذي يصغره سناً، أما السيد مهدي الحكيم فكان بعمره، أما المؤسسون السبعة الآخرون فكانوا أكبر منه سناً. 

الانشقاق الخطير 1963
     وفي السنوات اللاحقة؛ أي بعد انسحاب السيد الصدر من التنظيم عام 1961؛ إثر طلب المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم إليه أن يبقى مرشداً للحزب؛ ولكن من خارج الحزب؛ فإن علاقته بالدعوة ظلت تلاحمية وقريبة جداً؛ إذ ظل يتابع شؤون الحزب ويتدخل لحل ما يعترضه من مشاكل وخلافات داخلية، ويشارك في التنظير والتخطيط له، وكانت أهم قضية تمكن من حسمها هو منع انهيار حزب الدعوة في عامي 1963 و 1964؛ إثر حدوث خلاف عميق بين قيادة الحزب في بغداد ممثلة بالثنائي محمد هادي السبيتي وعبد الصاحب دخيل ومعهم الشيخ عارف البصري، ولجنة النجف ممثلة بالسيد طالب الرفاعي والشيخ عبد الهادي الفضلي والشيخ كاظم الحلفي والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين، وصدور بيانين انشقاقيين داخليين من الطرفين يفصل كل منهما الآخر من الحزب؛ فكان تدخل السيد الصدر حازماً في إنهاء الأزمة. بيد أن شوائب تعرضت لها علاقة السيد الصدر ببعض قياديي الحزب في عقد السبعينات من القرن الماضي؛ وتحديداً مع محمد هادي السبيتي والشيخ علي الكوراني؛ الى مستوى التعارض في بعض القرارات، ولاسيما الفترة من عام 1972 وحتى مطلع 1979؛ وهي المرحلة التي كان فيها محمد هادي السبيتي القيادي الأول في الحزب؛ أي أن طبيعة العلاقة بين السيد الصدر وقيادة “الدعوة” ظلت ترتبط بنوعية حراك السيد الصدر في مواجهة النظام، ورؤية القياديين النافذين في “الدعوة” لهذه المواجهة؛ ففي الوقت الذي بادرت قيادة حزب الدعوة في الداخل الى مبايعة السيد محمد باقر الصدر العام 1979 على السمع والطاعة؛ فإن بعض أعضاء القيادة في الخارج كانوا يرون التريث في المواجهة لحين استكمال أدوات المعركة مع النظام العراقي، بينما كانت قيادات الداخل والقتالية والتنفيذية وكذا معظم القيادة العامة مع التصعيد؛ وهو مالم يكن يراه السبيتي.
(يتبع)...

 

محرر الموقع : 2016 - 05 - 27