حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الإجتماع الديني والسياسي (كتاب في حلقات) الحلقة التاسعة
    

حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الإجتماع الديني والسياسي

(كتاب في حلقات)

الحلقة التاسعة

 

بقلم: د. علي المؤمن

 

 

موانع الإجتماع الديني والسياسي أمام انتشار حزب الدعوة
      في الوقت الذي كانت هناك حواضن لحزب الدعوة، وبيئات دينية واجتماعية ومؤسسات ثقافية استثمرها الدعاة؛ فقد كانت هناك عقبات كبيرة أمام «الدعوة» وانتشارها وتمددها، فبعد مرحلة التأسيس الصعبة؛ واجه حزب الدعوة واقعاً أصعب خلال مرحلة الانتشار الأولى؛ التي استمرت حتى نهاية عام 1961، وتمثلت إشكاليات هذا الواقع بما يلي: 
 1- إشكالية النظام السياسي في العراق؛ المبني على ركيزتي العنصرية والطائفية (عرب / سنة ) وهو نظام قديم موروث تتمظهر ركيزتاه في تهميش الشيعة واضطهادهم على أساس طائفي، وتهميش الكرد والتركمان على أساس عنصري. 
 2- إشكالية المنظومة الدينية الشيعية وموروثاتها الاجتماعية والسياسية في ما يرتبط بموضوعتي السياسية والدولة، وعلاقة الاجتماع السياسي الشيعي بالدولة والسلطة والمجتمع السياسي الرسمي؛ وهي علاقة انكفاء وقطيعة غالباً. 
 3- إشكالية انتماءات النخبة الشيعية؛ الموزعة بين أحزاب السلطة الملكية، والتنظيمات القومية؛ العربية والكردية، والتنظيم الشيوعي، والتنظيمات الإسلامية السنية، وهذه الانتماءات هي قسرية وغير موضوعية غالباً؛ لأن النخب الشيعية عندما تريد التعبير عن نفسها سياسياً واجتماعياً وثقافيا؛ فإنها لم تكن تجد أمامها غير هذه التنظيمات العلمانية القومية والأممية أو الإسلامية السنية، (مقولة للسيد مرتضى العسكري(

4- الموقف الفقهي والاجتماعي التقليدي للحوزة العلمية في النجف الأشرف؛ الذي لا يستسيغ التنظيم والتحزب والعمل السياسي وقيام دولة إسلامية، ويكمل هذا الواقع؛ غياب الموقف الفقهي في الموضوعات السياسية. 
 5- الأوضاع السياسية والثقافية والاجتماعية الصعبة التي يعيشها الشيعة في مختلف دول العالم؛ ولاسيما في العراق ولبنان وإيران والكويت والسعودية والبحرين وباكستان وأفغانستان.
 6- فاعلية الحركات الإسلامية السنية؛ التي تعمل على الاستحواذ على الساحة الإسلامية بجانبيها السني والشيعي.  

حوزة النجف والخط الثالث
     وعلى مستوى الحوزة العلمية النجفية؛ فقد عاش حزب الدعوة حالة الثنائية بين مرجعية الإمام الحكيم الإصلاحية ومرجعية الإمام الخوئي المحافظة، واستطاعت «الدعوة» إيجاد خط ثالث فاعل؛ ولكنه خفي وغير منظور؛ إلا أنه كان يتمظهر غالباً في الفعاليات والنشاطات المحسوبة على مرجعية الإمام الحكيم وجماعة العلماء في النجف الأشرف وكلية الفقة، وبذلك أصبح واقع الاجتماع الديني النجفي ينقسم في عقد الستينيات من القرن الماضي الى ثلاثة تيارات رئيسة: 
     أولا: التيار الوسطي الإصلاحي؛ المتمثل في مرجعية الإمام السيد محسن الحكيم، وسمته: إصلاح شامل في الأمة وإصلاح مقيد في السلطة، ويتكون من خليط من علماء دين عراقيين وعرب وإيرانيين، وشبكة من البيوتات النجفية الدينية؛ العراقية وذات الأصول الإيرانية. 
     ثانياً: التيار التقليدي المحافظ؛ المتمثل في مرجعية الإمام السيد ابي القاسم الخوئي، وسمته: إصلاح تقليدي في الأمة وانكفاء في موضوعة السلطة، ويتكون معظم التيار من علماء دين إيرانيين؛ فرس وأذربيجانيين ( كان الإمام الخوئي من القومية الآذربيجانية الإيرانية(.
     ثالثاً: التيار التغييري الثوري؛ المتمثل في خط الفقيه الشاب السيد محمد باقر الصدر وحزب الدعوة الإسلامية، وسمته: إصلاح شامل في الأمة وتغيير جذري في السلطة، ويتكون معظم التيار من علماء دين شباب عراقيين وعرب وإيرانيين، وناشطين من غير علماء الدين من البيوتات الدينية النجفية والعراقية والعربية. 

المحافظون والإصلاحيون والثوريون 
      وبالرغم من أن تيار الصدر/ حزب الدعوة؛ كان يحظى بدعم المرجعين الحكيم والخوئي، ويحتمي بهما حوزوياً وثقافياً واجتماعياً، ويحصل منهما على الدعم المالي والمعنوي؛ ولكنه كان يصطدم بشخصيات مؤثرة في مكاتبهما وفي إطار مرجعياتهما؛ لم تخف امتعاضها من وجود تيار إسلامي حزبي تغييري سياسي ثقافي يتعارض والطابع التقليدي المحافظ لحوزة النجف. في حين كان شخصا المرجعين الحكيم والخوئي ينظران بعين العطف والحماية للسيد الصدر وحزب الدعوة، الأمر الذي يقود الى نتيجة راسخة مفادها بأن الاجتماع الديني الشيعي العراقي لا يمكن أن يسير وينجح وينمو إلّا بوجود التيارات الثلاثة المذكورة ( المحافظة والإصلاحية والثورية )؛ فهي ضرورية للإبقاء على حالة التوازن، شريطة أن تحافظ على تفاهمها وتكاملها وتوزيع الأدوار في ما بينها؛ كما كان الوضع عليه في عهد مرجعية الإمام الحكيم، وهذه المهمة الصعبة تقع على عاتق المرجع الأعلى في النجف حصراً؛ فهو الكفيل بتقوية التيارات الثلاثة معاً وخلق حالة التوازن بينها، وتنظيم أدوارها، وهو ما نجح فيه الإمام الحكيم والإمام الخوئي، ثم الإمام السيستاني فيما بعد؛ مع وجود تفاوت في نسب النجاح بالطبع؛ تبعاً لنوعية النظام السياسي الحاكم ولقدرة المرجع الأعلى على الإدارة العامة. 

مرجعية السيد السيستاني
    مع الأخذ بالاعتبار ان الفرصة التي توافرت للإمام السيستاني بعد عام 2003 لم تتوافر لغيره من المرجعيات على مر التاريخ؛ إلّا لعدد محدود؛ كالشيخ المفيد والشريف المرتضى والشيخ الطوسي في بغداد خلال المرحلة البويهية، والشيخ الكركي والشيخ البهائي والشيخ المجلسي خلال المرحلة الصفوية. وقد يرى بعض المراقبين مفارقة في هذا المجال؛ فكيف يدعم التيار الديني التقليدي المحافظ تياراً إصلاحياً وآخر ثورياُ، أو العكس!؟. والحقيقة أن من يعرف جزئيات تفكير المرجعية النجفية العليا وحركتها؛ يفهم بأن هذه المرجعية تمارس ـ عادة - دور الأبوة لكل التيارات والوجودات في الوسط الشيعي، وتعمل على حمايتها وعدم التفريط بها، وشدها إليها بهدوء وصبر؛ للحؤول دون انكفائها خارج المنظومة الدينية الشيعية؛ سواء كانت المرجعية نفسها ثورية أو إصلاحية أو محافظة.

حكومة عبد الكريم قاسم
     لقد مارس حزب الدعوة الإسلامية نشاطه التنظيمي السري، والثقافي العلني عبر واجهات مختلفة؛ بشكل واسع بعيد انقلاب 14 تموز 1958؛ مستثمراً حالة حرية الرأي التي أوجدتها حكومة عبد الكريم قاسم؛ والتي تسببت في الوقت نفسه بانتشار موجات الإلحاد والأفكار العلمانية، فكانت هناك حاجة ملحة للتخفيف من وطأة تأثير هذه الموجات والتيارات على المجتمع العراقي، فضلاً عن الحاجة الى بناء كتلة مؤمنة تغييرية قوية تعمل على بناء المجتمع عقائدياً؛ تمهيداً لإقامة دولة إسلامية؛ وهو المطلب شبه النهائي لحزب الدعوة، وعليه؛ لم يكن تأسيس «الدعوة» في حقيقة الأمر؛ رداً على تلك التيارات، وعلى الأحداث والأوضاع التي أفرزها انقلاب 14 تموز، أو المد الشيوعي، أو ليكون حزباً في مقابل الأحزاب الأخرى؛ بل كان مؤسسو حزب الدعوة ينظرون الى عملهم باعتباره فعلاً ستراتيجيا ًبعيد المدى، وذا أهداف كبيرة؛ بعيداً عن الأجواء الانفعالية والمؤثرات الآنية. 

انتشار الحزب

     وانطلق الدعاة الأوائل يوسعون صفوفهم وينشرون تنظيمهم؛ فوجدوا أرضية خصبة في أواسط علماء الدين وطلبة الحوزة العلمية النجفية، وطلبة الجامعات والمعاهد في بغداد والبصرة والموصل وغيرها، وتغلغلت تنظيمات الحزب في الوسط الديني في النجف وكربلاء وبغداد والبصرة تغلغلاً كبيراً، وانفتح الحزب على غير العراقيين، وعلى أبناء الريف من الطبقات المتوسطة والمنخفضة، كما استقطب بكثافة غير مسبوقة أبناء القوميات غير العربية في العراق من كرد فيليين وتركمان وشبك وفرس، وقدر عدد أعضاء الحزب عام 1960  بما يقرب من مائة عضو، ولكن العدد تضاعف بشكل كبير حتى عام 1963 بعد انتقال مركزية القيادة من العاصمة الدينية النجف الى العاصمة السياسية بغداد. 

مرحلة «الدخيل» و «السبيتي»
      وشهدت الطفرة العددية الكبيرة للحزب بعد عام 1964 حين أمسك بالتنظيم عبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي، وقد شهدت انضمام بعض المتدينين السنة الى حزب الدعوة؛ في العراق وخارجه؛ من منطلق رؤية القيادي محمد هادي السبيتي للدعوة باعتبارها حزباً عابراً للمذاهب، وكانت هذه الرؤية تحظى بقبول القياديين الآخرين عبد الصاحب دخيل والشيخ عارف البصري، ومعارضة قياديين آخرين؛ ولاسيما علماء الدين؛ كالسيد مرتضى العسكري، وظلت الرؤية العابرة للمذاهب تصطدم بالواقع وبموروثات الاجتماع الديني للمسلمين؛ بل ظلت تصطدم بالرؤية العقائدية والفقهية التي يطرحها غالبية علماء الدين في حزب الدعوة، وما لبثت أن انهارت الرؤية الانفتاحية للسبيتي بمرور السنين؛ ولاسيما بعد الصدام الشامل بين «الدعوة» والنظام العراقي عام 1979.     

عالمية الدعوة 
      وكان تعدد الانتماءات الاجتماعية والوطنية والقومية لأعضاء حزب الدعوة الأوائل؛ يسهم في تمكين حزب الدعوة من النفوذ في البلدان الأخرى، وقد أضافت هذه التعددية كثيراً لحزب الدعوة؛ إذ كان لها أكبر الأثر في مراكمة التنوع الثقافي الاجتماعي في بنية حزب الدعوة التنظيمية، وكانت تنسجم مع عالمية «الدعوة» وفكرها، واستطاع حزب الدعوة صهر هذا التنوع في بوتقته الفكرية، واستثمار إيجابياته وتجاوز سلبياته؛ مستفيداً بذلك من التجربة النجفية الوطنية والعالمية التي يزيد عمرها على الألف عام؛ على اعتبار أن حزب الدعوة هو وليد طبيعي للبيئة النجفية؛ وهي البيئة التي ظلت تمثل نتاجاً لتفاعل بيئات ثقافية اجتماعية متنوعة، وظل هذا النتاج غنياً، ومتفوقاً في عمقه وسعة أفقه على الأحاديات الثقافية المحلية؛ وهي ميزة نادرة تتمتع بها البيئة النجفية، وظلت تطبع حزب الدعوة بطابعها طيلة مراحل انتشار الحزب وامتداد تنظيماته الى مختلف مدن العراق وغيره من البلدان العربية والإسلامية. 
     ولم يؤثر انفتاح حزب الدعوة على المدن والقوميات والبيئات الاجتماعية العراقية والعربية والمسلمة في الحفاظ على جذوره النجفية؛ فقد بدأ حزب الدعوة نجفياً في انتمائه الثقافي والاجتماعي؛ واستحال عراقياً وعالمياً في تنوع انتماءات أعضائه؛ إلّا أنه من الناحية الفكرية والتقاليد الدينية؛ بقي ينتمي الى مدرسة النجف الأشرف. 


تحدي مرحلة المهجر
      وربما كانت مرحلة المهجر هي التحدي الأكبر الذي واجه حزب الدعوة على هذا الصعيد؛ ولاسيما حين تواجدت قيادته في الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ حيث تأثيرات البيئة الفكرية الدينية الإيرانية وتقاليدها، ثم ظهور تيار مهم من فقهاء «الدعوة»؛ كالسيد كاظم الحائري والشيخ محمد مهدي الآصفي والشيخ محمد علي التسخيري وآخرين، وكثير من مثقفيها؛ يدعو الى الذوبان في قيادة الإمام الخميني والدولة الإسلامية على وفق مبنى السيد محمد باقر الصدر؛ وهو مبنى لم يكن مألوفاً في النجف الأشرف. وفي مرحلة لاحقة اتجه عدد غير قليل من "الدعاة" الى اتباع مدرسة السيد محمد حسين فضل الله غير التقليدية؛ المتباينة الى حد ما في تقاليدها الفكرية والدينية عن مدرسة النجف؛ على الرغم من انتماء السيد فضل الله اجتماعياً وعلمياً الى النجف. و لكن في المحصلة بقيت بوصلة حزب الدعوة تشير غالباً الى مدرسة النجف، وهذا الأمر لا يزال قائماً؛ حتى في خضم الجدليات الجديدة/القديمة التي تحكم العلاقة بين حزب الدعوة والمرجعية النجفية. 

(يتبع)...

 

محرر الموقع : 2016 - 05 - 28