الشباب الأوروبي يسعى لطلب اللجوء!
    

عدنان أبو زيد : لم يعد مستغرباً، أن تجد شاباً هولندياً او ألمانياً، يسعى الى "طلب اللجوء"، لو صحّ التعبير، في بلد اوربي آخر، غير وطنه، سعياً الى كسر الضجر، وقهر الرتابة. وفي سخرية لاذعة، تُطلق وسائط "الميديا" الاوروبية على هذا النزوع الى الهجرة، اسم لجوء "الضجر" او "الرتابة" فيما يدعو أطباء نفسيون، وباحثون اجتماعيون الى أخذ الموضوع، على محمل الجد. وأحد حالات لجوء "الضجر"، هجرة شباب من بلد اوروبي مترف، يحتل مرتبة متقدمة في قائمة الدول السعيدة في العالم، الى بلد آخر بنفس الدرجة من هناء العيش والراحة، وعلى هذا المنوال يهاجر شباب من السويد الى الدنمارك، وبالعكس، حيث الافق واعد بالتغيير، فحسب.

وتقول آنا (21 سنة) التي غادرت هولندا الهادئة والمُترفة الى بلجيكا، في سعيها الى القضاء على "السأم" الذي تشعر به، انها تسعى الى "تغيير نمط حياتها".

لذة "المتاعب"
بل انّ شباباً من ألمانيا وبلجيكا، هاجروا الى مصر البلد "النامي"، حيث الرفاه الاجتماعي، اقل بكثير من البلد الأم، سعيا الى البحث عن لذة "المتاعب"، والصعوبات، كما تقول الفتاة الهولندية سالما (22 سنة)التي استأجرت غرفة لها في أحد احياء القاهرة، وشرعت في اثناء ذلك بتعلم اللغة العربية.
تقول سالما لـ"الصباح" ان "شعوري بالتغيير لايوصف، فأشعة الشم القوية لم اعتدها في بلدي، واشعر بسعادة غامرة حين تنفذ اشعة الشمس الى جلدي لكي أصبح سمراء أكثر".
وتعترف سالما بأن رحيلها الى مصر، بمثابة "لجوء" للخلاص من "ملل" الحياة اليومية في هولندا، التي لا "يضطرب" فيها شيء، ولم تحنّ وهي في مصر، سوى لكلبها الصغير الذي اودعته لدى صديقتها، مؤكدة على ان "الكثير من الشباب لاسيما الطلاب، من الولايات المتحدة وأوروبا، يزورون مصر ثم يقررون البقاء على رغم صعوبة العيش في هذا البلد، وقلة الخدمات مقارنة بدول الغرب".
شاب آخر، هو ستيفن الألماني، في السادسة والعشرين من العمر، وتخرج من جامعة أيندهوفن الهندسية الهولندية، قرّر البقاء بشكل نهائي في هولندا معترفا للسلطات الرسمية، بأنه يطلب الإقامة الدائمة، "لاجئا"، من "السأم"، من حياته في بلده الأصلي.
وعلى الرغم من ان الامر يبعث على الدهشة، وحتى على السخرية لدى البعض، إلا ان الحقيقة المؤكدة، هي ان الجهات المسؤولة الأوروبية ومراكز البحوث التي تعتمد عليها السلطات في القرارات التي تتخذها، سوف تدرس الظاهرة بصورة جدية، وتضع القوانين المناسبة لها.
وتوفّر المدن الاوروبية حياة مترفة، لكن تجري بوتيرة متناسقة، تكاد تجعل الأيام متشابهة، ما يسبب التذمر والاكتئاب الذي بات مرضاً اوروبياً متقدماً في اعداد المصابين به، فعلى الرغم من ان بلدا مثل الدنمارك يتصدّر قائمة الأمم المتحدة للدول السعيدة في العالم، الا أن ابناءه كما يقول السيناريست الدنماركي أدامبريس، من أكثر الشعوب استهلاكا لمضادات الكآبة.

لا بد من التجربة
في جزيرة جميلة مثل غرينلاند، يحلم الشباب بالهجرة، الى الدنمارك والسويد وهولندا، هربا من السكون "القاتل" في هذه البقعة الجميلة، كما يقول ستيفن، الذي استقر به المقام في هولندا.
يقول ستيفن ان "الهدوء والترف ليس كل شيء، انا ابحث عن التحدي والمصاعب، واطمح الى اختبار نفسي في القدرة على التحمل".
ويستطرد "حين اشاهد الحياة الصعبة والخطرة للشباب في الحروب، واتمعّن الى نمط الحياة الصعب في الدول الفقيرة، ينتابني شعور بضرورة اختبار الحياة الأخرى التي لم اتذوق طعمها". ويردف "ربما يكون الطعم مرا، لكن لا بد من التجربة والتغيير".
ويسهّل التنقلُ الانسيابي بين دول اوروبا، "لجوء الترف" هذا، كما ان الحقوق المضمونة للأوروبي أينما حل، تجعله يتجشّم عناء المغامرة.
ومنذ العام الماضي، وشباب جزيرة غرينلاند، التي منحها اتفاق ابرِمفي 2009 بـ"اعلان استقلالها عن الدنمارك متى شاءت"، يهرعون الى كوبنهاكن ومدن أخرى، اما للعمل او الدراسة، فيما يقصدها عدد كبير منهم للإقامة النهائية. وعلى الرغم من ان البطالة التي ارتفعت نسبيا في الكثير من الدول الاوروبية، إلا ان خدمات الصحة والتربية والضمان الاجتماعي، توفر الحياة الكريمة للأوروبيين، ولهذا السبب لا تجد اوروبيا واحدا، يطلب اللجوء في بلد آخر خارج القارة الاوروبية، لأسباب سياسية او اقتصادية او حتى إنسانية بسبب الحرية والديمقراطية التي تتمتع بها شعوب اوروبا.
فقد أتاح التعليم المجاني، وصولا إلى الجامعة، ورعاية صحية ممتازة، وإجازة عمل اجبارية سنوية، ودخل جيد، ووسائل ترف مختلفة، وبيئة نظيفة، وقوانين وأنظمة رحيمة لكنها صارمة، وثقافة اجتماعية تستوعب المتغيرات الحياتية، أتاح كل ذلك لجوءاً من نوع آخر، بدا غريبا على مجتمعاتنا، حتى وصفه البعض بأنه "بطر" و"دلال زائد".

انسيابية العبور
وما يزيد من انسيابية العبور بين الدول الاوروبية من قبل الشباب، الخطط الموحدة للدول، التي تتيح للشباب الاستفادة من الامتيازات والمساعدات في الدولة التي يودون الإقامة فيها، فقد زاد الاتحاد الأوروبي من المنح المالية للشباب بواسطة الصندوق الاجتماعي، للسنوات من 2014 الى 2020، واطلق مشاريع توظيف الشباب، بميزانية تصل الى 6 مليارات يورو في كل الدول.
وعلى الرغم من القوانين الوطنية للهجرة، الخاصة في كل بلد اوروبي، الا ان الإطار العام يسمح بشكل فعال بانتقال الافراد من بلد الى آخر من دون صعوبات، بعدما استند الاتحاد الأوروبي الى سياسة هجرة عامة، ومشتركة (common immigration policy for Europe) منذ 1999. وهَدَفَ برنامج ستوكهولم (StockholmProgramme)، لتطوير سياسة الهجرة الاوروبية، خلال الفترة من 2009 إلى 2014 الى قارة أوروبية ذات "مسؤولية وتضامن وشراكة في مجال الهجرة واللجوء" من خلال "سياسة هجرة ديناميكية وشاملة". ويقول موقع "بوابة الهجرة الى اوروبا" التابع للاتحاد الأوروبي، ان "دول الاتحاد اتفقت على ضرورة أن تكون هناك قواعد عامة أو شاملة للاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالهجرة والتأشيرة تكون صالحة في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي".
على ان هناك من يرى خلف حرية التنقل بين دول الاتحاد الأوروبي، هجرة أدمغة من بلد الى آخر، وان بعض الدول تشجّع على جذب هؤلاء الذين يسعون الى المغامرة والتغيير في أنماط حياتهم.
لكن مثل هذه الهجرات البينية بين الدول المُترفة لا يُنظر اليها كحالة "سلبية" كونها غير ناتجة عن اضطهاد سياسي او اجتماعي، بقدر ما هي تعبير عن روح التطلع والمغامرة وحب الحياة، الذي جُبِل عليه الشباب الأوروبي، بحكم طبيعة التربية، التي غذّت فيهم روح التحدي والاكتشاف.

الهجرة إلى الشرق
وأحد أساليب كسب "الرتابة" الاوروبية، اختيار الشاب الأوروبي الزواج من امرأة شرقية سمراء، ليقرر بعد ذلك السفر معها الى بلدها الأصلي، كما يحدث العكس، أيضا، حيث الفتيات الشقراوات يستهويهن الزواج من الشبان السمر، لكن التجربة في النهاية، تكون دائما في غير صالح اهداف الشاب الأوروبي، حين يدرك ان بلاده هي الأفضل للعيش من باقي الدول، لاسيما في الشرق الأوسط، فيضطر للعودة الى بلده على أحر من الجمر بعد ان يكون قد قضى على "روتين" الحياة اليومية الهادئة التي كان يعاني منها، وهو ما حدث للهولندي مايك فاس (29 سنة) الذي تزوج فتاة مصرية، حين زار القاهرة في رحلة سياحية في 2010، وتعرّف عليها هناك، ليكشف بعد نحو السنة من الإقامة في القاهرة، ان استمرار العيش هناك صعب لا محال، بسبب صعوبة الحصول على عمل، إضافة الى طريقة الحياة، التي تختلف عن الأسلوب الذي اعتاد عليه.
يقول مايك "تحوّلت الاسطورة الشرقية الى كابوس مخيف، بسبب انحسار الخدمة الاجتماعية، وغياب نسق الحياة المنتظم، فقررنا العودة الى هولندا". لكن تجربة مايك جعلته يكف عن التساؤل عن السر وراء ترك الشباب العربي لبلاده، وتجشمه المخاطر للعيش في اوروبا، اذ ان تجربته القصيرة، القت الضوء على حجم المعاناة التي يعيشها الشباب العربي من بطالة وانعدام الحريات لاسيما في الأنظمة الدكتاتورية إضافة الى غياب مشاريع التأهيل، ونقص الخدمات وقوانين الحماية الاجتماعية.
ويتحدّث الباحث الاجتماعي العراقي المقيم في مدينة "انفيربين" البلجيكية، عصام الخفاجي لـ "الصباح"، عن ان أحد اهم أسباب "الرتابة" بين الاوروبيين، على الرغم من "الترف"، و"النعمة"، وسعة العيش، هو التفكك الاجتماعي، واختلاف الفلسفة بشأن مفهوم العائلة ودورها، حيث الفردية وحريتها تتقدم في أهميتهاعلى مفهوم "الاسرة"، لكن بالمقابل فان هذه الفردية تنتظم بقوة في السلسلة الوطنية المحكمة بقوانين تجعلها فعالة وايجابية.

محرر الموقع : 2015 - 04 - 18