حقيقة السعادة والشقاء وتنوع سننهما في “أصول تزكية النفس وتوعيتها”.. محمد باقر السيستاني
    

السعادة مرام كل نفس بشرية وغايتها، تسعى إليها بالفطرة دون أن تنفرد بها مرحلة عمرية معينة أو عقلية مكتملة أو غير مكتملة، إنما تختلف في عناوينها وأسبابها. وتختلف تفصيلاتها بين العقل الجمعي وبين الشعور الذاتي من وجهة نظر فلسفية في أبعادها الجدلية ومؤداها الأخلاقي ودورها في النفس كعنصر فضيلة من عناصر تزكية النفس.

وفي مجال البحوث الاجتماعية والعقائدية، ومنها موضوع السعادة، صدر مؤخراً عن دار المؤرخ العربي في بيروت كتاب “أصول تزكية النفس وتوعيتها” لمحمد باقر السيستاني، ويحمل مجموعة من المناقشات والتحليلات والتوجيهات، لعدد من الموضوعات المتعلقة بتزكية النفس من وجهة نظر عقائدية، يسعى إلى تقديمها بمنهج علمي تبسيطي، يتطرق إلى موضوع السعادة ودورها في حياة الإنسان.

ولأن السعادة تختلف بصورها بين عقل وآخر في تعريفها، فقد تحدث عنها وفسرها الفلاسفة الأقدمون والمعاصرون، بكثير من التوصيف والتحليل، وقد ترتب على ذلك الكثير من الأسئلة لمعرفة هذه العناوين، فهل هي: في الذات الحسية أم هي في التفكير والوعي العقلي؟ أم هي في الاثنين معاً ؟.

فأرسطو مثلا يراها بتحقيق الخير، ويحددها باللذة التي تولدها الفضيلة، وهي تتحقق بالإرادة الذاتية من خلال التأمل، بحيث يتولد عنها حالة من العشق الغيبي وصولاً إلى السعادة الفكرية والروحية. وعنده هي مسألة جماعية وليست فردية، توصل في بعض عناوينها ووجوهها، إلى أن تكون غاية توصل إلى الخير ا”الأسمى” لأنها تتولد من الجانب العقلاني للفرد.

ولأن النفس البشرية هي الإطار الجامع للروح والجسد، فقد أشار الفارابي إلى أن السعادة توجد في المعقولات والأفكار الإرادية الموجودة في الروح، وأن الأفكار الطبيعية المتولدة من علم المبادىء توجد في الجسد، مُقراً بذلك أنها غاية في حد ذاتها.

يلاقي الفارابي ابن مسكويه الذي يعتبر أن السعادة جسمية وروحية لأنها تعكس الفضيلة الروحانية. ويعتبر أن السعادة غاية أخروية، لأن الدنيوية ناقصة لأنها تنطلق من عالم “الحس”، ولذا هي تعرّض صاحبها للألم. ويسوق أمثلة على ذلك يؤكد فيها رؤيته، فيقول أننا حتى نشعر بلذة الطعام فلا بد أن نشعر بالجوع. ويختم أمثلته ليقول: إن السعادة الأخروية تستنير بنور الخالق القادر، لأنها تبعد النفس عن الألم الذي تعيشه، ولذا فإن الأخلاق هي غاية السعادة، إذن لا بد من تهذيب الأخلاق للوصول إليها.

بعد هذا الإيجاز لآراء فلاسفة كبار، ندخل إلى ما تضمنه كتاب “أصول تزكية النفس وتوعيتها” حول السعادة وتعريفه لها دون أن نناقش هنا مضمون هذا الباب، بل نعرض مقدمته وتبقى تفاصيله في صفحات الكتاب إذا نشدها المتلقي.

يقول المؤلف محمد باقر السيستاني، كمقدمة لعنوان “حقيقة السعادة والشقاء وتنوّع سننهما إلى باطنة وظاهرة”:

“قد يظن المرء في بادىء النظر أن السعادة في هذه الحياة هي التمتع بالنعم الكثيرة والإمكانات الواسعة والجاه الكثير.

وهذا خاطىء، بل حقيقة السعادة هي الشعور الصادق والعميق بالراحة والسكينة والطمأنينة والاستقرار وانطواء المرء على الرضا بمحله وما لديه. وهذا الشعور على ضربين:

أحدهما: السعادة المعنوية، بالعمل بالقيم النبيلة والممارسات الفاضلة، وتجنب الممارسات الشائنة والأفعال القبيحة، فإن ذلك يستتبع شعوراً بالطمأنينة لما فيه من إرضاء الضمير والاستجابة للوجدان، ولذا تجد أن المرء بفطرته قد يقدم ممارسة نبيلة على نفع مادي، وما ذلك إلا لما يجده فيه من معاني النبل والرفعة، وما يستتبعه من الشعور بالراحة والسلامة، وما يوجبه خلافه من نغص وتلون ونكد واضطراب.

والآخر: السعادة المادية التي تحصل باستيفاء الحاجات وممارسة الملذات.

وقد يظن الظان أن سبيل تحصيل هذه السعادة هو الكد في تحصيل تلك النعم والملاذ والتمتع منها بأكبر قدر ممكن.

وهذا خطأ ممن يقع فيه، سواء نظر إلى هذه الحياة المادية وحدها، أو قدر آفاق الحياة كلها ظاهرها وباطنها، وعاجلها وآجلها، بل السبيل الأنجع في تحصيل هذه السعادة مجموع أمرين:

1 ـ الغنى المادي، المراد به أن يكون للمرء من الإمكانات المادية كفاف يقيه من المعاناة.

2 ـ الغنى النفسي، والمراد به استغناء النفس عن الازدياد من الطلبات المادية وقناعته بيسير منها، فإن ذلك مما يورث راحة في النفس وسلامة من القلق والأذى، فكم من امرىء يعيش في إمكانات واسعة كالقصور، يحزّ في نفسه فقدان شيء يجده لدى الآخرين، مما يجعل حياته نكداً. وآخر يعيش في قرية عيشة متواضعة، لكنه في هدوء ودعة، فأي الرجلين أكثر سعادة وأروح بالاً؟ “.

وفي سنن السعادة يقول: “إن سنن السعادة والشقاء تنقسم إلى ظاهرة وباطنة، سواء ما تعلّق منها بالدنيا أو بالآخرة. فسنن الدنيا ظاهرة يلتفت إليها عامة الناس، وتتصف بسرعة الاستجابة للاقتضاءات النفسية من شهوة وغضب ولذة وألم، فينفّس بذلك عن نفسه.

ومنها باطنة يحتاج إليها الاعتبار بها إلى شيء من التأمل والحكمة، وتبتني نوعاً ما على الترفّع عن الاندفاع السريع والاستجابة العاجلة، والالتفات إلى عواقب الأمور وآثار الأعمال، إذ رُبّ لذّة أعقبها ندم، ورُبّ كلمة غاضبة سلبت نعمة وأوجبت نقمة، ورُبّ شهوة منعت شهوات وأتبعت ويلات، وذلك كله معروف في الحياة. وتختلف السنن الباطنة في مستوى الخفاء حسب التأمل والحكمة التي يقتضيها إدراكها”.

ويخلص تحت عنوان “السعادة والشقاء إنما تكونا بلحاظ الأثر إلى القول: “إن السعادة والشقاء بالعمل أو النعمة إنما يقدران بلحاظ التوابع والآثار، فلو حكم بها بالنظر إلى ذات العمل أو ذات النعمة دون ملاحظة التبعات لكان في ذلك مسامحة في الحكم، لما فيه من التجزئة للأشياء المترابطة”.

ويعرض في تحديد سنن السعادة والشقاء إلى سنن خمسة يحددها:

أولا: الاستغناء النفسي وما يضادّه من الحرص والشعور بالعوز والحاجة.

ثانيا: النعم والإمكانات المادية، ونعني بها المال والزوجة والأولاد والجاه والصحة والاستعداد الذهني وغيرها، وأضدادها.

ثالثاً: الأخلاق الفاضلة والأعمال والنبيلة وأضدادها.

رابعاً: السنن النفسية والاجتماعية المؤدية إلى نتيجة تناسبها، بحسب موضع الإفادة منها.

خامساً: تولي الله سبحانه وتعالى للمرء وعنايته به وتكفله بأموره، أو إيكال أمره إلى نفسه.

علي.أ. دهيني

محرر الموقع : 2018 - 02 - 21