كردستان أم مسعودستان؟
    

 مسعودستان
قال رسول الله (ص) : \"إذا عزمت على أمرٍ فتدبر عواقبه.\"
منذ أن عبر رئيس إقليم كردستان العراق المنتهية ولايته السيد مسعود البارزاني عن خطته لإجراء استفتاء في الإقليم بشأن رغبة الشعب الكردي في الاستقلال وانفصالهم عن العراق والمسألة أخذت تشغل الكثير من وسائل الإعلام وآراء السياسيين العراقيين والعالميين. وكلما يقترب موعد الاستفتاء في الخامس والعشرين من أيلول 2017 كلما تشتد حدة التصريحات المعترضة على ذلك الأمر وأكثرها مخالفة لرغبة مسعود. لا شك في أن غالبية الأكراد \"العراقيين\" في الإقليم ستصوت إلى جانب الانفصال وتأسيس الدولة الكردية المستقلة عن الحكوة الفدرالية العراقية؛ وقد رباهم قادتهم على أنهم ليسوا عراقيين، بل أكراد، وذلك واضح في كل تصرفاتهم مع الحكومة الاتحادية المركزية. وأبلغ دليل على ذلك قيام بعض الأكراد على إحراق العلم العراقي قبل أيام، والاستفتاء لم يتم بعد، فما بالك عما سيحدث من هياج  وانفعالات عندما تعلن نتيجة الاستفتاء ان الأكثرية الساحقة من الذين شاركوا بالتصويت عبرت عن رغبتهم بالانفصال؟ إن اعتذارات الجهات الكردية عن هذه الفعلة المخزية لم تكن سوى تبرير لهذا العمل أكثر من رفضها له. كما لم ننس بعد موقف الجماهير العدواني في ملعب دهوك قبل بضع سنوات تجاه فريق كرة قدم جاء ضيفا لديهم من الجنوب ومعهم وزير الشباب؟  من الطبيعي أن لا يستطيع أحد أن ينكر عليهم حقÙ!
 �م في كيان قومي، إنما إلى أي مصير سيأخذهم انفصالهم عن العراق في الوقت الحاضر؟
 من المعلوم أن الشعب الكردي مقسم بين أربعة دول تعترض كلها على أن ينفصل عنها القسم الكردي من شعبها، ومنها المنطقة الكردية في العراق المقفلة عن العالم الخارجي فكيف سيضمن استمرار حياة الناس فيها بمعزل عن بقية العالم، وبالأخص من الناحية الاقتصادية، إذا ما انفصلت عن بقية العراق؟ وماذا سيكون موقف الدول المجاورة للعراق التي يكون الشعب الكردي قسما مهما من مواطنيها؟ أول تلك الدول تركيا، والتي أعلنت دون مواربة أو تردد معارضتها لاستقلال كردستان العراق عن الدولة العراقية، وتستعد بدون أي شك لمعارضة ذلك بكل السبل وأخطرها بالسلاح؛ لأنها تعتبر استقلال أكراد العراق أخطر ما يكون على استقرار تركيا الداخلي، وبخاصة أن حزب PKK  الذي يقول بأنه يمثل أكراد تركيا ما زال في حالة حرب معلنة مع السلطة هناك. و هناك إيران وهي الدولة الأخرى التي تعارض وبكل قوتها انفصال الأكراد عنها. ولا أدري ما هو رأي مسعود وأصحابه في الزيارة المهمة لقائد الجيش الإيراني إلى تركيا قبل فترة قصيرة ونتائجها، وعن الأمورالتي اتفقت الدولتان حولها بخصوص المشروع البارزاني في العراق، وماذا سيكون موقفهما معا.  لابد من إدراك حقيقة أن تلك الدولتين متفقتان على معارضة انفصال الأكراد عن العراق ومقاومته بكل وسيلة.
إذا ما حدث الاستفتاء وعبر الشعب الكردي عن رغبته في الانفصال عن العراق فسوف تعتبر تركيا أن أكراد العراق لم يعودوا ولا أرضهم  جزءا من العراق، فمن سيمنع تركيا من  احتلال كردستان العراق؟ في سنة 1973 عزمت حكومة قبرص اليونانية على الاتحاد مع اليونان، باعتبارها الوطن الأم للشعب القبرصي، والذي أكثريته من المسيحيين، وجزء كبير من الشعب القبرصي هم من الأتراك المسلمين؛ فماذا فعلت الحكومة التركية؟ قرر بلند أجويد،  رئيس وزراء تركيا آنذاك، الدفاع عن مصالح أتراك قبرص وحشد قواته العسكرية واحتلت القسم الشمالي من الجزيرة وقسمتها إلى دولتين ولحد اليوم، فصار في الجزء الشمالي حكومة تديرها الطائفة التركية، وبقي جنوب قبرص تحكمه الطائفة اليونانية. من من دول العالم وقف في وجه تركيا ومنعها مما أرادت؟ هذا ولا يشكل اتحاد قبرص مع اليونان لو كان قد تم أي خطر عسكري على تركيا أو وحدة أراضيها، بينما يشكل انفصال اكراد العراق أشد خطر على وحدة تركيا، وستفعل كل ما تستطيع للقضاء على الحلم الكردي وبأسرع وقت ممكن، لتقطع عن العالم أية فرصة لمساعدة الأكراد. وما عدا إسرائيل ، فإن جميع دول العالم ، وكذلك منظمة الأمم المتحدة، عبرت كلها عن معارضتها للاستفتاء.
إن مسعود البارزاني يخاطر بمصلحة الشعب الكردي في إصراره على إجراء الاستفتاء، ليس بمصلحة أكراد العراق فقط بل وجميع الشعب الكردي، وسيكون رهينة لنتيجته الحتمية وهي تعبير أكراد العراق عن رغبتهم بالاستقلال، لأنه لن يكون باستطاعته تحقيق ذلك لهم، وسيكون ذلك أكبر خطأ استراتيجي للقيادة الكردية. وإذا كان بعض القادة الأكراد يزعمون بأن الاستفتاء لا يعني الانفصال بالضرورة فذلك سيكون ضحكا على الذقون، وخيبة أمل للشعب الكردي، لأن الجميع يعلمون ومنذ الآن أن نتيجته الحتمية  ستكون الرغبة بالانفصال وتحقيق الاستقلال القومي الكردي.
عندما حدثت ثورة تموز 1958 كان الملا مصطفى البرزاني لاجئا في الاتحاد السوفياتي، فبعث برسالة إلى الزعيم عبد الكريم قاسم يرجوه الموافقة على عودته وأصحابه إلى الوطن. وافق الزعيم برحابة صدر، ويروى أن عبد السلام عارف وزير الداخلية آنذاك قال إنه يرى أن يكون الجواب للملا: برو برو. استقبل الزعيم عبد الكريم الملا مصطفى في وزارة الدفاع والذي أبدى إخلاصه للدولة العراقية بكل ما يستطيع. وبعد ثلاث سنوات تزعم الملا حركة مسلحة بوجه حكومة الزعيم، وتواطأ مع البعثيين ضد حكومة الزعيم؛ واعترف جلال الطالباني أن ذلك كان خطأً كبيرا من الأكراد؛ ولم يمض أكثر من شهر حتى شد البعثيون والقوميون الحرب ضد الأكراد. واستمرت العلاقات بين حكومة بغداد والأكراد ولمدة ثلاثين سنة بين صلح مؤقت وقتال متواصل. كان واضحا أن الأكراد يعتمدون في تسليحهم وتمويلهم على دول معادية للعراق، وبخاصة حكومة شاه إيران، وكذلك إسرائيل. وبلغت الحركة المسلحة الكردية أوج قوتها عام 1974، حتى أن الجيش العراقي عجز عن القضاء عليها نتيجة الدعم المتواصل لها من شاه إيران. وعندما حصل اتفاق الجزائر بين صدام والشاه عام 1975 وتنازل العراق عن نصف شط العرب للشاه مقابل قطع مساعداته عن الحركة الكردية، والتي كان عدد مسلحيها البيشمركة يعد بعشرات الآلاف، وبتقدير الفريق وفيق السامرائي بمائة !
 ألف مقاتل، انهارت الحركة الكردية خلال يوم واحد فقط، وهرب البيشمركة إلى إيران وأولهم قائدهم الملا مصطفى أو اختفوا بين الجبال بعد أن رموا بأسلحتهم في الطرقات والشوارع. يجدر بالاستاذ مسعود أن يتذكر ذلك جيدا.
والآن مهما بلغت القوة المسلحة الكردية من العدد والسلاح فلن تستطيع الصمود بدون دعم خارجي؛ فمن أين ستحصل عليه؟ من إيران أم من تركيا، أم من سوريا، وكلها أشد ما يكون رفضا لأي استقلال كردي؟ ألا نعلم أن هذه الدول الثلاث قد اتفقت فيما بينها قبل أكثر من عشر سنوات على رفض أي انفصال كردي عن العراق ولو بالسلاح، وستغلق الحكومة العراقية الحدود مع المنطقة الكردية، وكذلك ستفعل بقية الدول المحيطة بالإقليم، وتنسد الأجواء أمام الطائرات، وسيتوقف تهريب النفط من الشمال، وتفلس السلطه هناك أكثر مما هي الآن، ويكون الشعب الكردي أول ضحية للقرار غير الحكيم.
لقد حصلت المنطقة الكردية في العراق منذ 1991 على أكثر مما كانت تطمح به وأصبحت بعد 2003 من  الناحية العملية مستقلة عن الحكومة المركزية، فالحدود والكمارك بيدها، ومطاراتها تستقبل المسافرين من خارج العراق بدون أخذ الفيزة من وزارة الخارجية،  وهناك الكثير من المطلوبين للقضاء العراقي  يجدون الملجأ عند مسعود رغم أنف الحكومة الاتحادية، والتي هي منشغلة بمقاتلة الإرهاب.  لقد ساعد غباء  صدام الأكراد على الانفراد بحكم منطقتهم بعيدا عن السلطة المركزية عندما سحب القوات المسلحة والإدارة المدنية من المنطقة الكردية عام 1991. لقد كان بإمكان الأكراد لو أنهم أحسنوا الاستفادة من تلك الفرصة أن يبقوا على علاقة تعاون مع حكومة بغداد بعد سقوط البعث، لكي لا يثيروا مخاوف تركيا وإيران وسوريا من العنصر الكردي في بلدانهم، ويثبتوا أنهم مخلصين للدولة التي يعيشون في كنفها، وأن مطالبهم لا تشمل الانفصال، فتتوفر الفرص ليحصل الشعب الكردي في بقية البلدان على حقوق ثقافية وإدارية ترفع من مستوى حياتهم و لاتعرضهم لاستبداد حكومات بلادهم، ويتركون مسألة توحيد واستقلال كردستان للظروف الملائمة، بدل أن يعرضوا كل ما حصلوا عليه للضياع.
إذا ما  جرى الاستفتاء في الوقت الذي حدده مسعود، وصوتت الأكثرية من الأكراد على الاستقلال، فماذا سيتبع ذلك؟ هناك الكثير مما يتوقع حدوثه، وأقله: ماذا سيكون موقف رئيس الجمهورية الكردي؟ هل سيؤيد نتيجة الاستفتاء والانفصال، فيكون بذلك قد خان أمانته التي أقسم عليها بحماية الدستور؟ وأين سيكون موقعه؟ هل سيعود إلى كردستان؟ ومن سيكون بعده رئيسا للجمهورية من غير الأكراد؟ آنذاك سيكون من الحق والمنطق أن ينتخب رجل غيره رئيسا للجمهورية، وقد يكون تركمانيا، أو مسيحيا، أو صابئيا. أم أنه سيرفض نتيجة الاستفتاء، فيصبح خائنا من وجهة نظر مسعود وصحبه، وفي كل الأحوال لن يبقى في موقعه ممثلا لفئة قررت الانفصال عن الوطن. وماذا عن فوج البيشمركة الذي يحرس الرئيس في الكرادة؟ هل سيسمح لهم بحمل السلاح؟ هل سيعودون إلى الشمال بسلاحهم، والذي سيشهرونه آنذاك بوجه السلطة المركزية، أم سيسفرون باشبزغ، أي بدون سلاح؟ آنذاك سيتخلص سكان الكرادة من إزعاج أفراد هذا الفوج الذي سفك الدماء بغير حق، ويضايق سكان المنطقة باستمرار، وربما سيشكر بعضهم مسعود على فعلته.
وماذا عن الأكراد الذين يعيشون في مدن وسط العراق وجنوبه؟  هل سيعبرون عن فرحهم بنتيجة الاستفتاء بالمظاهرات وإطلاق العيارات النارية؟ وماذا سيقولون لبقية المواطنين؟ ثم هل سيبقون يعيشون خارج كردستان مسعود؟ أم يغادرون إلى الوطن الجديد!!! والحدود مقفلة؟ يقول بعض القادة الأكراد أن هناك مليون من العراقيين غير الأكراد يعيشون في كردستان، وكأنهم يهددون بغداد بمصيرهم. عندما تنغلق الحدود حول كردستان أين سيذهب هؤلاء إن أرادوا ترك المنطقة؟ إن رجعوا إلى بلدانهم الأولى فسينقطع إنفاقهم الذي يكون دخلا كبيرا للسياحة هناك، وتشغر الفنادق والشقق من ساكنيها من غير الأكراد في مدن الشمال. ولو افترضنا أن منهم من سيبقى هناك، فسيكونون موضع اتهام وعدم ثقة بهم، أو موضع كراهة من بقية الناس هناك باعتبارهم من مواطني بلد يعادي الكرد.  لو افترضنا أن كل عراقي من الوسط والجنوب و يسكن في الشمال ينفق كل سنة ألفي دولار على الأقل فسيكون أنفاقهم السنوي مليارين من الدولارات وربما أكثر، والتي سيفقدها الاقتصاد الكردي هناك، وسينهجم بيت أصحاب الفنادق والمطاعم والخدمات. لقد أصاب الدكتور العبادي، رئيس الوزراء، بقوله أن الاستفتاء سيضر الشعب الكردي. وحتى السياحة الجنوبية فستنقطع لظروف أمنية إن حدث الانفصال. وهناك الكثير مما سيحدث ضد مصلحتهم فوق ما ذكرنØ!
 �ه. وإن عاد إلى كردستان جميع الأكراد الذين يسكنون في الوسط والجنوب فسيشكلون عبئا اقتصاديا  كبيرا على السلطة الكردية وتزداد حدة البطالة هناك، وعندك الحساب. وسواء أتم الاستفتاء أم لم يتم، فواقع الحال أن الشعب الكردي قد تهيأ نفسيا لتأييد الانفصال عن العراق، وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها، وأنه أخذ يشعر بالاغتراب عن بقية العراقيين إن لم يكن العداء تجاههم، ومنهم من أخذوا يصرحون بأنهم لايشرفهم أن يكونوا عراقيين.
ومن الناحية العسكرية فإن القيادة الكردية وقفت وبشدة ضد أي عقود تسليح للجيش العراقي بعد 2003، وبخاصة للقوة الجوية، لما لها من تأثير كبير في أية مواجهة محتملة لكي يبقى الجيش العراقي ضعيفا. ثم كيف سيحمي الأكراد حدودهم الشمالية والشرقية من قوتين كبيرتين هما تركيا وإيران، وكم من قوات البيشمركة ستخصص لذلك، إلى جانب ما يخصص لبقية المواقع؟ ولقد جهزت السلطات الكردية قوات البيشمركة بالكثير من السلاح، منه ما استولوا عليه من أسلحة الجيش العراقي بعد 2003، ومنه ما يصل إليهم من بعض الدول الغربية، مما جعلهم على ثقة بأنهم إن وقع صدام مسلح ضدهم فسيقفون بوجهه بكل قوة. هب أن الحكومة العراقية لا رغبة لها في أي صدام مسلح مع الأكراد، فلأي مدى يمكنها البقاء متفرجة وأرض من العراق من غير الكردية تستقطع منها، ويطرد ساكنوها التاريخيون منها؟
إن من مصلحة الكرد أن يتجنبوا الوقوع في غلطة الشعور بنشوة النصر وأن يكونوا واقعيين جدا، وأن يحسنوا تقدير الموقف واستباق الأمور، وأن يتدبروا عواقب ما ينوون عمله بشكل واقعي، وأهمها أن لايفرطوا بالعلاقة التاريخية مع الشعب العراقي والذي عانى من ظلم صدام أكثر مما عانوا منه. إن من السهل نشوب حرب، لكن من الصعب جدا إيقافها. ليقرءوا التاريخ جيدا، وأن لا يتركوا مصير أمتهم بيد حفنة من الإقطاعيين ورؤساء العشائر، ونحن على ثقة بأن بينهم من السياسيين العقلاء من يخشى نتيجة الاستعجال والتهور، رغم أن معظمهم لا يتجرأون على التعبير عن آرائهم خشية التسقيط الاجتماعي والسياسي.
باقر سلمان الربيعي

محرر الموقع : 2017 - 09 - 15