"في الشر نجاة حين لاينجيك إحسان"
    

علي علي

 

     هناك بيت للشاعر الفند الزماني، يضطر أحدنا أغلب الأحيان الى ترديد أحد شطريه مجبرا، أو قد يتمسك به آخر كموقف لابد من اتخاذه في ظرف ما، وقد يرى فيه آخرون من الصحة قدرا ضئيلا، ذلك أنه يعتمد على غائية قائله الآنية، وغرضه اللحظي الذي ينشده من خلاله، ذاك الشطر هو؛ "في الشر نجاة حين لاينجيك إحسان".              

  ومن المؤكد أن من يستشهد بعبارة كهذه على استعداد تام لاتخاذ جانب الشر بكرة وأصيلا، مادام يوصله الى مبتغاه، ويلبي له طموحه، وينيله مطلبه، ويحقق مناه، وجانب الشر هذا مفتوحة أبوابه على مصاريعها، كما هو جانب الخير فأبوابه هي الأخرى مشرعة أيضا لكل ساعٍ ومريد وقاصد، ولنا الخيار بين الإثنين.

  ماذكرني ببيت الزماني واتخاذ بعضنا الشر مسلكا للنجاة حين لاينفع الإحسان، هو مايدور مؤخرا في ساحة إقليم كردستان العراق، وقطعا كل مايدور هناك هو على يد الكابتن مسعود بارزاني. إذ مافتئ هذا الرجل يغالي ويبالغ في أحلامه، ويا ليت أحلامه سهلة التحقيق أو قريبة المنال، كما أنه يتمادى في طموحاته، فيصل حدا لعل أقرب وصف له بيت المتنبي القائل:

إذا كانت النفوس كبارا

                        تعبت في مرادها الأجسام

  ولربما يقول قائل إن مطلب كاكه مسعود منطقي، وذاك هو الاستفتاء، ولعل آخر يقول إن من حق الأكراد نيل استقلالهم، وقد يذهب ثالث الى القول بأحقيتهم بمدن ومناطق كان كاكه مسعود قد حددها على الخريطة، لتنضم الى قارته المزمع إنشاؤها، وتدويلها في مصاف البلدان، لتأخذ دورها بعد ذلك بالانضواء تحت لواء عصبة الأمم المتحدة، لتكون جارة شمالية للعراق كباقي الجيران.

    إزاء مطلب كاكه مسعود هذا، هناك مطالب كانت له مع بغداد، والحديث عنها يطول ويعرض ويتشعب، بل يأخذ من الأبعاد والاتجاهات ما لا تسعه وثائق، وذلك منذ فوزه عام 1991 بالجائزة الذهبية التي منحها له الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين على طبق من ذهب، وآخر من نفط، وطبق ثالث من سياحة، ورابع من ثروات معدنية ومائية وزراعية، تلك الجائزة التي ليس من حق رئيس عراقي منحها لأي شخص أو أقلية أو أكثرية أو أغلبية، فهي حق العراقيين من القوميات والأديان والطوائف والأعراق جميعها فردا فردا، فمدن العراق لم تكن يوما ملكا من أملاك فيصل الأول، ولا الثاني، ولا هي ضيعة لعبد الكريم قاسم ليتصرف بها، كما أنها ليست عرصة يملكها صدام حسين، فيهبها كما شاء تحت شعار: (وهب الأمير ما لايملك)، وبالتالي فأرض العراق بكل شبر منه، ملك للعراقيين جميعا، ومن يحكم العراق ليس أكثر من موظف له حقوق، مقابل هذا عليه أداء دوره بما منوط به من واجبات والتزامات وظيفية وشرعية وأخلاقية وقانونية، وسوى هذا فإن دخول الحمام ليس كخروجه، ومن أراد منهم -اللاحقين- اللعب بذيله، فهناك من يقطعه له، كما قطع ذيل السابقين.

  لعل من المفيد فيما يأتي من سطور استذكار شيء من مواقف كاكه مسعود مع الحكومة الاتحادية، لاسيما فيما يخص المستحقات المالية وحصة الإقليم من الموازنة -هذا طبعا إذا صرفنا النظر عن استحقاقات المركز من حصة النفط في محافظات الإقليم- حيث قال الرجل، وحسبي بقوله بيانا صريحا، يوضح غاياته المعلنة فضلا عن نياته المبطنة:

- "إذا لم تتوصل الحوارات والتفاهم إلى نتيجة، وإصرار الحكومة الاتحادية على موقفها بخرق قانون الموازنة وعدم إرسال المستحقات المالية للإقليم، ستضطر حكومة الإقليم باتخاذ "سبل أخرى" لمعالجة الأزمة المالية لإقليم كردستان بحسب قانون موازنة العراق وقوانين برلمان إقليم كردستان".

   أرى أن عبارة "سبل أخرى" تبطن -فيما تبطنه من مفاهيم- نيات وغايات لطالما صرح بها القائمون على حكم محافظاتنا الشمالية بعد عام 1991، إذ مافتئ رئيس الإقليم ورئيس حكومته، ورؤساء الكتل الكردستانية -وأعضاؤها أيضا- يلوحون دوما في أكثر من مقام ومحفل باتخاذ "سبل أخرى"، وقطعا المقصود هو السبل المشروعة وغير المشروعة.. والمستساغة وغير المستساغة.. والمبررة وغير المبررة.. وكذلك الشريفة و "غير الشريفة". وبذا فإن قيادة الإقليم أضحت مصدر خطر كقنبلة موقوتة مبيتة في شمال العراق، وكفى بعبارة "سبل أخرى" أن تضعها موضع تنظيم داعش، فالإثنان يقضمان من جسد العراق أرضا وكيانا وثروات.

 

محرر الموقع : 2017 - 09 - 19