السيد السيستاني ليس الأول ولا الأوحد
    

منذ أن تولى السيد السيستاني مهمة مراقبة حراك الحكومة ومصلحة الأمة من خلال محاولاته الكثيرة لتصحيح المسارات، والهجمة الظالمة عليه شخصا وفكرا وعقيدة تستمر وتتوسع وكأن القائمين عليها والمتولين أمرها، نسوا كل تلك التنبيهات والإرشادات والنصائح التي تقدم بها، والتي وجد بعضها فرصة للتطبيق على أرض الواقع، فأعطى نتائج تعجز عن تحقيقها السياسة والسياسيين، وغيرها وهي كثيرة  لا تحصى، مثل تأكيده على إجراء الانتخابات، وإصراره على كتابة الدستور بأيد عراقية، ولجم غرائز الطائفية من خلال شعار (أنفسنا)؛ الذي لم ولن يكون له شبيها عند غيره من علماء المذاهب، ولاسيما في مثل ذلك الموقف الذي صدر به، يوم كان الخراب والدمار والحرب الطائفية تتهدد العراق بالفناء، وأخيرا وليس آخرا فتوى الجهاد الكفائي التي أوقفت تمدد داعش الإجرامية، ثم أسهمت بشكل مباشر وفاعل بطردها من كثير من الأراضي التي احتلتها ودنستها بفعلها الحقير.

إن من أساليب المعترضين الشاذة، ادعاؤهم أن رجل الدين يجب أن لا يتدخل في الشأن السياسي، وأن تدخل السيد يعني أنه بدأ يعمل بولاية الفقيه، وغيرها من التهم التي لا تمت إلى الواقع بأي صلة، ولاسيما وأن السيد لم يتدخل أملا بالحصول على منصب أو مكسب وإنما أراد الحفاظ على لحمة العراقيين ووحدة العراق.

إن ما أريد تبيانه في هذا المقال المختصر هو أن علماء مدرسة أهل البيت كانوا ولا زالوا ينأون بأنفسهم عن السياسة ومكرها وخداعها وفسادها وألاعيبها، ولكنهم يعتبرون أنفسهم صمام الأمان؛ الذي ينفس الأزمات حينما تشتد وتهدد بالانفجار، أو يتحول أحدهم إلى معادل موضوعي لمساواة كفتي الميزان؛ إذا مالت إحداهما بشكل خطير حفظا للأمن العام وسلامة الوطن والمواطن، وهناك في تاريخ علماء هذه المدرسة الفقهية عشرات المواقف المشابهة لموقف السيد السيستاني، لا زال المنصفون يتذكرونها ويحسبون مكاسبها لهم، على خلاف المناوئين والمعادين الذين يحسبونها عليهم.

ومن الأمثلة المشابهة؛ وهي كثيرة لا تحصى، ما قام به المرحوم الشيخ الجليل محمد حسين آل كاشف الغطاء(1877ـ 1954) في الأمس القريب، فهو عندما قام الانكليز باحتلال العراق، وصدرت الفتاوى من الفقهاء بوجوب التصدي للمحتل ومجاهدته، ذهب معية السيد محمد نجل السيد كاظم اليزدي وجمع من العلماء عام 1916 للجهاد ضد المحتل الانكليزي في الكوت.

وحينما حصلت فتنة (الحصّان) عام 1933 بسبب نشر المدعو “عبد الرزاق الحصّان” كتابه الموسوم (العروبة في الميزان)، الذي طعن فيه على العلويين وشيعتهم، ومدح الأمويين دون وجه حق، وقعت اضطرابات عامة في بغداد والنجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، وعندما وجد الحكومة عاجزة أو غير جادة في السيطرة على الموقف، قام بتهدئة الناس، وأخمد فتنة خطيرة كانت تتهدد نسيج الشعب العراقي.

وبعد تشكيل حكومة ياسين الهاشمي، وعمل الأخير على تهميش الشيعة وحرمانهم من الوظائف العامة، وفرض الضرائب على الفلاحين دون وجه حق، اجتمع عند الشيخ آل كاشف الغطاء عدد من زعماء وشيوخ العشائر من الديوانية والرميثة والناصرية وسوق الشيوخ، وأصدروا ميثاقا يطالب الحكومة بتخفيض الضرائب عن الفلاحين، وإصلاح الأوضاع الاجتماعية، والعناية بعمران البلاد، ونبذ الطائفية، وحينما رفضت حكومة الهاشمي هذه المطالب المشروعة، أعلنت العشائر الثورة على الحكومة، لكن الشيخ حينما رأى توسع رقعة الثورة بما يهدد بتسببها بخسائر جسيمة في الأموال والأرواح والممتلكات العامة، طلب من الناس الخلود إلى السكينة وحفظ الأمن فامتثلوا له، ومرت المشكلة بسلام.

وعندما وقعت الحكومة العراقية معاهدة (بورتسموث) مع الانكليز عام 1948، ثار الشعب منددا، ومطالبا باستقالة الحكومة، والانسحاب من المعاهدة فورا. فحصلت مواجهات عنيفة بين الجماهير ورجال الأمن، وحينما أدرك الشيخ خطورة الموقف أبرق من وقته إلى رئيس الوزراء “صالح جبر” برقية في منتهى التلخيص والخطورة، قال فيها: “أقيلوا وزارتكم، واحقنوا دماء المسلمين”. فأدركت الحكومة خطورة رفض هذه الدعوة، ولذا استقالت في اليوم نفسه.

 وبعد أن تم تشكيل حكومة “نور الدين محمود” في عام 1952 وإعلانها الأحكام العرفية في البلاد، وإغلاقها الصحف، وحظرها الأحزاب، خرجت مظاهرات ضخمة، واشتبكت مع الجيش، وحصلت أعمال شغب، امتدت من بغداد إلى المحافظات والمدن الجنوبية، فبادرت الحكومة إلى إرسال قوة من الجيش إلى تلك المحافظات ومنها مدينة النجف الاشرف، فقام أفراد الجيش بنصب رشاشاتهم على أبواب مرقد الإمام علي(عليه السلام)، فازداد هياج الناس، وحملوا الأسلحة، وتهيئوا لمقاتلة الجيش وطرده، ولكن الشيخ كاشف الغطاء، قدر خطورة الموقف، فاصدر فتوى بتحريم محاربة الجيش العراقي، وبسبب هذه الفتوى تم إخماد نار الفتنة.

إن هذه المواقف وما سجله التاريخ من المواقف المشرفة لعلمائنا الكرام يجب أن تكتب بحروف من ذهب وتُدرَّس في المدارس والجامعات لتفيد منها الأمة بدل أن ينبري بعض من في قلوبهم مرض وزيغ لتشويهها والتقليل من أهميتها، ولذا أنا على يقين أن كل من يعترض على ما يقوم به السيد المرجع السيستاني اليوم إنما هو إما جاهل بالتاريخ، أو مغرض مدفوع، أو عميل يقبض ثمن أفعاله التخريبية، أو طائفي أفشلت مواقف السيد ما كان يروم العمل به من تخريب وتدمير، أو تافه لا يهمه أن يحترق العراق وأهله لمجرد أن يلهو أو يشير إليه الآخرون بأنه متحرر من قيود التبعية لرجال الدين وجريء لدرجة أنه يهاجمهم، وتلك وربي مواقف الأخسرين.

بقلم: صالح الطائي

محرر الموقع : 2016 - 02 - 04