صناعة التغيير الاجتماعي عبر اسلوب اللاعنف
    

 

(إنّ ما يثير الدهشة هو أن صورة العنف أصبحت أكثر شدة وضراوة، وكذلك أكثر تكراراً)

الامام السيد محمد الشيرازي

 

قد تصاب بالإحباط وانت تطالع اخبار وسائل الاعلام وتقارير المنظمات العالمية عن الكم الهائل لأحداث العنف، بكل اشكاله والوسائل المستخدمة فيه، التي مرت وتمر على المجتمعات الإنسانية في مختلف بقاع العالم، وكأنها دوامة لا تنتهي من الدمار الذاتي للجنس البشري الذي اوصلته الى حافة الهاوية وجعلت الكثير من الباحثين وغيرهم يؤمنون بان الانسان ميال بطبيعته الى العنف ومن يمارسونه، بعد ان دب اليأس في نفوسهم وعقولهم بإحداث التغيير.

هذا التفكير قد يقود الانسان الى الاستسلام في نهاية المطاف، وترك الإصلاح، خصوصاً لمن يركز على الجانب الفارغ من الكأس، فالنهج العنفي في السلوك البشري هو "ظاهرة حديثة نسبياً ظهرت قبل أقل من عشرة آلاف سنة، ولم تكن حاضرة في المجتمعات البشرية إلا بعد توطنها وبناءها للمساكن والتجمعات الحضرية" بحسب مختصين، كما اكد المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي ان: "الناس بطبيعتهم لا يميلون إلى الأفراد العنيفين وسيّئي الأخلاق، ولا يجلونهم بملء اختيارهم، وإذا حدث وإن استطاع بعض أصحاب القدرة والعنف استغفال وخداع مجموعة من الناس لفترة، فإن أوراقهم سرعان ما تنكشف وينقلب الأمر عليهم وينفض الناس من حولهم إن لم ينقلبوا عليهم".

العنف للتغيير

ان التغيير عبر السلوك العنفي واعتماده كأسلوب للتغيير الاجتماعي او السياسي تم استخدامه بصورة مفرطة عبر التاريخ، حيث أكد السيد الشيرازي ذلك بقوله ان: "التاريخ أعظم سجل دوّن للإنسانية على صفحاتها أغرب أساليب العنف والعدوان والتعسف الفردي تجاه الأفراد، والجماعي ضد الشعوب والمجتمعات"، لكن هل تمكن من يؤمن بالعنف كطريقة للتغيير الاجتماعي بالنجاح في احداث تغيير إيجابي للفرد او المجتمع؟

لمراعاة الدقة في الإجابة ينبغي دراسة كل حالة على حدة مع الاخذ بعين الاعتبار كل العوامل والظروف التي أحاطت بهذه الحالة، لكن بالمجمل يمكن القول "ان من يتصور أنه يمكن انقاذ الشعوب بالعنف سوف يبرهن له التاريخ عكس ذلك"، وهي حقيقة أكد عليها المنطق والفطرة السليمة والتجارب التاريخية والمعاصرة.

وبما ان اللاعنف كما يعرفه السيد محمد الشيرازي بانه "سلوك يرفض استخدام العنف الجسدي لتحقيق تغيير اجتماعي أو سياسي أو أي مجال آخر من مجالات الحياة"، فان أي وسيلة من وسائل العنف (اللفظ او اليد او القلب) قد تقود الى "العنف الجسدي" لتحقيق التغيير الاجتماعي وغيره مرفوضة بطبيعة الحال، وهي لا تخدم طريق الإصلاح الذي لا يتم الا عبر الطرق السلمية وان كانت صعبة وطويلة: "حركة الإصلاح تقوم على اللاعنف وإن كانت صعبة جداً على النفس، لكنها مثمرة جداً في الوصول إلى الهدف، والعاقل يقدم الصعوبة على الفشل".

الإسلام واللاعنف

ان الدين الإسلامي الحنيف بتعاليمه السماوية الخالدة بين للإنسانية جمعاء انجح الطرق واقصرها لتحقيق السلام ونشر التسامح واللاعنف عبر رسالته السلمية التي حثت على اللين والرحمة ونبذ القسوة والتحلي بالأخلاق السامية والنبيلة حتى مع الأعداء، ونشر السلام ونبذ العنف مهما كانت الغاية، وقد اعتبر الامام محمد الشيرازي ان: "أول دعاة السلم هو الدين الإسلامي إذا أخذنا بنظر الاعتبار دعوته إلى اللاعنف كاستراتيجية لها قواعدها وأصولها وتنظيرها الخاص بها"، كما ان: "الإسلام ينبذ العنف والقسوة والإرهاب قولاً وفعلاً، وقد دعا إلى اللاعنف كبديل لحلول ما يواجه الأمة من ازمات ومشاكل ومصاعب".

وقد مثل رسول الله محمد (صلى الله عليه واله وسلم) من خلال دعوته السلمية الإسلام، خير تمثيل، بالنسبة للمسلمين ولباقي الأديان حول العالم، حتى ان المصلحين، من غير المسلمين، الذين اتخذوا اللاعنف كاسلوب لحياتهم في احداث التغيير الاجتماعي لمجتمعاتهم اعتبروا النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) اهم الأمثلة التي تأثروا بها واعتبروها صالحة لكل المجتمعات الإنسانية.

ومن الأمثلة على ذلك (غاندي) حكيم الهند ومصلحها، الذي كان يربط ما بين اللاعنف والأخلاق من خلال قوله "إنني أؤمن بمبدأ اللاعنف"، وهذا الايمان نابع من التزام أخلاقي راسخ بمبدأ اللاعنف كأسلوب لحياته وطريق لإحداث الاصلاح للمجتمع الذي عاش فيه.

غاندي قال عن الرسول محمد (صل الله عليه واله): "أردت أن أتعرف على أفضل ما في حياة شخص تخفق له قلوب ملايين من بني البشر... ولقد اقتنعت أكثر من أي وقت مضى بحقيقة أن السيف لم يكن هو من فاز في تلك الأيام، بل كانت البساطة والحب والتسامح، والمحو الذاتي التام للنبي(ص)، والاحترام الدقيق للعهود، والتكريس العظيم تجاه أصدقائه وأتباعه، وجرأته، وقلة خوفه، وثقته التامة بالله وبرسالته، هذه القيم الإنسانية وليس السيف هي السلاح الذي اعتمده المسلمون الأوائل في انتصارهم الإنساني".

الخلاصة

من التعاريف الجميلة لمبدأ اللاعنف ما قاله الإمام محمد الشيرازي: "هو أن يعالج الإنسان الأشياء سواء كان بناءً أو هداماً بكل لين ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج".

فإحداث التغيير الاجتماعي كالعلاج الذي يقدم لشفاء حالة مرضية لا يتم عبر العنف ابداً، وانما عبر اللين والرفق والسلم حتى يحين وقت التغيير ونجاح الإصلاح، كما ان تأثر المجتمع بهذه الوسائل أكثر قوة من الوسائل العنفية التي تقود الى المزيد من العنف ودمار المجتمعات والفوضى.

ان اختيار اللاعنف كأسلوب ووسيلة للحياة لا يقتصر على الافراد فحسب، بل ينبغي ان تؤمن المجتمعات الإنسانية والمؤسسات والمنظمات الدولية والحكومات والدول بضرورة هذا الاختيار واعتباره البديل الناجح لتحقيق السعادة والامن والرفاه والسلم العالمي، وعلى الجميع (فرد، منظمة، مؤسسة، مجتمع، دولة) ممارسة دوره في إنجاح وترسيخ هذا المبدأ الإنساني من خلال:

1. دعم المؤسسات والمنظمات الدولية والمحلية الراعية لنشر اللاعنف واعتباره الطريق الانجح للإصلاح والتغيير.

2. تربية الأجيال على مفاهيم اللاعنف والتسامح والدعوة السلمية مع إيضاح مخاطر العنف وسلوكه واساليبه حتى في حال كان الهدف من وراءه تحقيق الخير.

3. الترويج لمبدأ اللاعنف عبر مختلف وسائل الاعلام من خلال التعريف به وبفوائده واثاره الإيجابية للفرد والمجتمع.

4. مكافحة ونبذ الأعراف والتقاليد المجتمعية التي تحرض على استخدام العنف والقسوة واحلال رسالة اللاعنف والتسامح محلها، وهو جهد تقوم مسؤوليته على الجميع.

5. الإصلاح وممارسة اللاعنف في التغيير ينطلق من الاسرة نحو المجتمع، لذ ينبغي نشر ثقافة اللاعنف داخل الاسرة قبل تعميمها على المجتمع ككل.

5. الجهد الحكومي ينبغي ان يكون مضاعفاً في الدعوة الى اللاعنف، بل وينبغي على جميع الحكومات ان تؤمن بهذه الدعوة وتطبق اللاعنف في قوانينها وانظمتها مع رعيتها حتى يتحقق لها النجاح والاستمرار.

6. المدرسة بعد الاسرة محور أساسي في تعليم اللاعنف كمنهج تربوي يساهم في تعليم الفرد على نبذ العنف والكراهية وترسيخ مفاهيم التعايش والتسامح، لذلك فإن العنف المدرسي الجسدي واللفظي يؤدي الى التشوية الأخلاقي لنمو الأطفال ويؤدي الى تضخم التوحش.

7. وضع الخطط الاقتصادية والاجتماعية لتقليص الفقر والتفاوت والبطالة خصوصا بين الشباب، فهذه العوامل أكبر المخاطر التي تؤدي الى تصاعد اليأس والإحباط المنتجة للعنف.

8. نبذ الاستبداد ومواجهة الفساد اللذان يعدان مستنقعا لانتشار وباء العنف، من خلال ترسيخ النزاهة السياسية عبر الشفافية في العملية الانتخابية والتداول السلمي للسلطة، وحماية حرية التعبير والتفكير النقدي وحقوق الانسان، وتعزيز التعددية والتنوع الثقافي والفكري.

 

باسم الزيدي

 

المصادر

1. مساوئ الفرقة: الإمام محمد الحسيني الشيرازي.

2. شبكة النبأ المعلوماتية.

 

محرر الموقع : 2019 - 01 - 22