صعوبات تخزين النفايات النووية وتنظيف المفاعلات تهدد العالم
    

 بعد 65 عاماً على دخول العصر النووي، يتزايد النقاش حول اعتبار مفاعلاته لتوليد الطاقة بدائل متاحة للوقود الأحفوري الذي يتسبب بأضرار للغلاف الجوي بفعل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وبالتالي يفاقم التغيرات المناخية التي باتت الوباء الذي يهدد العالم.
وحسب تقارير متخصصة، فإنّ فنلندا ستباشر في 2025، إنشاء مستودعات عميقة في الأرض الصخرية في أنفاق “أونكالو”، لإبقاء النفايات النووية معزولة عن محيطها لنحو 100 ألف عام، وهي الفترة التي تحتاجها النفايات المشعة لينتهي خطرها على الطبيعة والبشر، بينما بقية الدول النووية تتخلف عن ذلك رغم ما يشكله تزايد النفايات المشعة من خطر مدمر.
مع التهديد القائم للمفاعلات الأوكرانية خلال الاجتياح الروسي، ومخاطر الانزلاق إلى استخدام السلاح النووي ، ترتفع الأصوات المطالبة بعمل جدي لتجنب كارثة عالمية، خصوصاً مع تزايد الدعوات إلى إعادة تشغيل المحطات النووية لتقليص الانبعاثات الغازية ذات التأثير السلبي على مستقبل الأرض، فضلاً عن أزمة ارتفاع أسعار الطاقة على خلفية الأزمة الأوكرانية.
ولا تنفث مفاعلات الطاقة النووية ثاني أكسيد الكربون، وبالتالي لا تأثير مناخياً أو بيئياً لها، ومقارنة مع المحطات التي تعمل بالفحم أو الغاز، يعتبر المدافعون عن المحطات النووية أنها مصدر نظيف مثل توليد الطاقة من الرياح أو الشمس، لكنّ ذلك لا يعني أنّ المفاعلات آمنة تماماً.
ووفق تقارير حديثة حول الوضع النووي العالمي، فقد جرى تفكيك 22 مفاعلاً من بين أكثر من 200 مفاعل توقف العمل بها فعلياً، وعشرة مواقع فقط جرى اعتبارها قابلة للاستخدام في أغراض أخرى، في السويد كمثال، حذرت شركة الكهرباء مالكة المحطة النووية “فورسمارك”، السلطات من أن قرار تخزين الوقود النووي المستهلك “سيؤدي إلى خطر عدم إمكانية إعادة تشغيل محطة فورسمارك 2 بعد الصيانة السنوية في 2024، وفورسمارك 3 بعد الصيانة السنوية في 2025، وكذا فورسمارك 1 بعد الصيانة السنوية في 2028”.

ويوضح ذلك أن التعامل مع النفايات، ومنها الوقود المستهلك، ليس بالأمر الهين حتى على الدول ذات الخبرة في المفاعلات، ويؤكد أن الكثير من الوقود النووي المستهلك قد تراكم في المحطة، ما يهدد تشغيل المفاعلات الثلاثة إذا لم تتوفر مساحة تخزين أكبر. لكنّ إيجاد أماكن لتخزين الوقود المستهلك يواجه الكثير من المشاكل، من بينها الوعي الشعبي المتزايد منذ سبعينيات القرن الماضي في أغلب دول أوروبا، ورفض تخزين النفايات على أراضي دولهم، حتى لو كانت آمنة حسب الخبراء.
وبعد أكثر من 6 عقود على انطلاق حمى بناء المفاعلات النووية، تواجه صناعة الطاقة النووية مشكلة النفايات مع تزايد كمياتها، وتكرار الحديث حول مخاطر حدوث خطأ كارثي النتائج، فهناك آلاف المفاعلات النووية المنتشرة حول العالم، وبعضها انتهى عمره الإفتراضي. وتوقف العمل في أكثر من 200 مفاعل، وأخرج 12 منها عن العمل لأسباب تتعلق بما يسمى “الانهيار النووي” أو لأسباب تتعلق بالحرائق والزلازل، فيما جرى إغلاق 46 بقرارات سياسية قبل نهاية عمرها الفني.

وقد استغرق تنظيف موقع مفاعل أميركي صغير هو “نهر إلك”، والذي عمل لـ5 أعوام فقط، 6 سنوات كاملة، بينما استغرقت عملية تنظيف مفاعل أكبر 45 عاما، وهو مفاعل هومبولت باي في كاليفورنيا، إذ بدأت العملية في 1976 وانتهت في 2021.

في بريطانيا، تقدر “هيئة نزع السلاح النووي” أن التنظيف الكامل لـ17 موقعاً لن يكتمل سوى في عام 2130، وسيكلف حوالي 124 مليار جنيه إسترليني، كما أن “التنبؤات حول العمل الذي سيتم تنفيذه خلال المائة عام القادمة تخضع حتماً لعدم اليقين، إذ يستحيل التنبؤ بالمستقبل”. وقدر تقرير مقدم من لجنة الميزانية في بريطانيا حول إيقاف تشغيل 7 مفاعلات أنها ستكلف أكثر من ما جنته بين 2004 و2021، أي أكثر من 23 مليار جنيه إسترليني.
لا يختلف الأمر كثيراً في فرنسا، حيث جرى تفكيك الأجزاء الخارجية من بعض المفاعلات، وتركت البقية لمدة 50 عاما قبل إزالتها، ما يؤشر إلى التكلفة المالية الضخمة، والتي باتت تؤثر على مشاريع تفكيك وتنظيف المفاعلات القديمة لإعادة تشغيلها مجدداً في ألمانيا والسويد، وفي الأخيرة لا يتوقع أن تنتهي عملية تنظيف المفاعل “بيرسباك” قبل عام 2030.
وبينما نفايات محطات الطاقة النووية المفككة غير مشعة في معظمها، وبعضها منخفض أو متوسط الإشعاع ، إلا أن الأجزاء الداخلية من المحطات مشعة للغاية، ويجري التعامل معها على أنها شديدة الخطورة.
ويؤكد أحدث تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول إدارة النفايات النووية أنه جرى التخلص من نحو 30 مليون متر مكعب من النفايات ذات المستوى الإشعاعي المنخفض والمتوسط على مستوى العالم، بينما لم يجرِ التخلص من أي نفايات عالية النشاط الإشعاعي في صورة صلبة، ويشير التقرير إلى أنه لم تبدأ أي دولة في العالم بعد في التخلص من النفايات الأكثر خطورة، والتي ينبغي توفير السلامة للبيئة المحيطة بها لفترة لا تقل عن مائة ألف عام.
ووفقا للوكالة، فإن المشكلة تتعلق بالتعامل مع 390 ألف طن من الوقود النووي المستهلك منذ بداية الخمسينيات، وثلث هذه الكمية فقط أعيدت معالجته.
ومنذ عام 1977 توقفت أميركا عن إعادة معالجة الوقود النووي المستهلك، وأوقفت بريطانيا بشكل نهائي مؤخراً، عمليات مصنعها لإعادة المعالجة “سيلافيلد” الذي يعمل منذ 58 عاماً، ويخزن فيه 132 طناً من البلوتونيوم.

واليوم تعمل مصانع مدنية لإعادة معالجة الوقود المستهلك في فرنسا والهند وروسيا، مع ذهاب الصين أيضا إلى مشروع تجريبي لم ينجح بعد، وتأخرت اليابان 24 عاماً عن تشغيل معملها الخاص الذي سيفتتح خلال العام القادم، ولازالت تواصل شحن الوقود النووي إلى فرنسا لمعالجته.
بشكل عام، فإن معظم البلدان التي لديها مفاعلات نووية لا تتبع طريق إعادة المعالجة، ففي كل من السويد وألمانيا وكندا والولايات المتحدة ودول أوروبا الشرقية وبريطانيا يجري تخزين عناصر الوقود المشعة في باطن الأرض تحت التبريد المستمر بهدف التخلص النهائي منها.
ومع تزايد الكمية الإجمالية للنفايات بمعدل 12 ألف طن سنوياً، بحسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تتكرر احتجاجات بيئية ومجتمعية ضد مخاطر تخزين المواد الخطرة لعقود، وفي البال ما تسببت به كارثة تشيرنوبيل في عام 1986.
وتتوقع شركة “بوسيفا” أن تصبح مستودعات النفايات السويدية ممتلئة بعد نحو 100 عام، وعندها سيجري إزالة كل المرافق التابعة لها فوق الأرض، وإجراء إغلاق محكم للأنفاق العميقة، لتبقى تلك المواد آلاف السنين من دون تأثير على الأرض، في حين تتزايد الضغوط البيئية في السويد لإيجاد حلول جذرية مستدامة للنفايات النووية التي باتت تضغط على سعة التخزين المحلية.

وتستحضر المنظمات البيئية المعارضة للمفاعلات النووية كارثة فوكوشيما اليابانية التي وقعت بعد تسونامي وزلزال 2011، حين تضررت 3 مفاعلات من أصل 6 بسبب انقطاع الكهرباء، وتعذر الحفاظ على التبريد الداخلي، لترتفع درجة حرارة الوقود إلى 2800 درجة، وتنصهر المفاعلات، وينفجر الهيدروجين الذي تسبب بثقوب في الهياكل الواقية للمفاعلات، وتنطلق كميات كبيرة من الغازات والجزيئات المشعة.
وأجلي سكان القرى والمناطق الريفية المحيطة، وتدمير الطعام والمخزونات بسبب ارتفاع التلوث الذي رفع مخاطر الإصابة بأمراض السرطان، وبعد 11 سنة على الحادثة، لا يزال السكان مهجرين، ما يؤشر إلى حجم الكوارث التي يمكن أن تتسبب فيها حوادث المفاعلات النووية، إذ لازالت عملية تنظيف ضخمة جارية في المنطقة، وجرى تجريف كميات هائلة من التربة الملوثة بالإشعاع، والتخلص منها في “مخزن مؤقت” بمساحة 1600 هكتار، وجرى في مايو/أيار الماضي، نقل 13 مليون متر مكعب من التربة الملوثة إلى مرافق التخزين تلك، وأورد تقرير حالة الصناعة النووية العالمية لعام 2022، أنه “في الوقت الحالي، لا توجد صورة واضحة حول متى وكيف يمكن إزالة بقايا الوقود من المفاعلات المتضررة”.

*العربي الجديد

محرر الموقع : 2022 - 10 - 30