المخطوطات العربية كنوز تبحث عن طريق للتحقيق والقراءة والطباعة
    

 

 

 

المخطوطات العربية كنوز تضم بين طياتها إجابات عن تساؤلات فكرية، هذه النفائس تنير الحاضر إذا وجدت طريقها للتحقيق والقراءة والطباعة لتكون عنصراً مادياً ملموساً ينهل من مشكاة نوره الجميع من المهتمين بالثقافة والتراث العربي.

لا تعرف حضارة لها من الرصيد العلمي المؤلف كماً وتنوعاً وغزارة، ما للحضارة العربية والتاريخ الإسلامي، ويكفي الدليل ما وصل إلينا من تراث مخطوط يعد على رغم كثرته وتنوعه النزر اليسير في مقابل ما أنتجه العقل العربي ودمرته الحروب والصراعات، مخطوطات في اللغة وفقه الحديث والفلسفة والعلوم العلمية.

اختيرت العاصمة بغداد لكي تحتضن الحفل الختامي ليوم المخطوط العربي 2023، الذي تمتد فعالياته لنصف عام تبدأ في الرابع من أبريل (نيسان) من كل عام، تشهد الدول العربية خلاله فعاليات ثقافية تعنى بالمخطوط العربي، ويرعى هذه الفعاليات معهد المخطوطات العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو).

حازت دار المخطوطات العراقية لقب (مؤسسة العام في الوطن العربي 2023) وهي الإدارة المركزية المسؤولة عن حفظ المخطوطات في العراق ومتابعة شؤونها، وتأسست عام 1940، لتكون إحدى أكبر دور المخطوطات في العالم العربي والعالم، إذ تضم 47 ألف مخطوط متنوع اللغات والموضوعات.

ضم حفل الختام تكريم أحمد شوقي بنبين من المغرب ليكون شخصية العام للبحث التراثي، كما تم الاحتفاء بكتاب العام التراثي “الشذور الذهبية في الألفاظ الطبية”، وكذلك تكريم من حقق الكتاب المصري محمود مهدي.

حصل أحمد شوقي بنبين وهو محافظ الخزانة الملكية “الحسنية” على شخصية العام للبحث التراثي، وعمل في مجال المخطومات منذ 50 عاماً، وهو صاحب أول كتاب في علم المخطوطات “الكوديكولوجيا” في العالم العربي ولديه كثير من المؤلفات.

يرى بنبين أنه على رغم وجود آلاف الباحثين الذين يعملون في الكتاب المخطوط لكن مازلنا نجهل كثيراً منه، “لاتزال الجهات المظلمة أضعاف المضيئة، وهناك عشرات الأسئلة ولا إجابات عنها”.

عدم توازن

بدوره أوضح مدير معهد المخطوطات العربية مراد الريفي أن هناك عدم توازن في ما تم تحقيقه من المخطوط العربي، فمن خلال المسح الإحصائي سيتبين 80 في المئة ما تم تحقيقه في الجانب الديني والشرعي والتفسير والحديث و20 في المئة المتبقية هي اللغة والنحو في حين أن هناك حقولاً غاب عنها التحقيق وهي حقول الفلسفة،

لافتاً إلى أن “التراث الفلسفي والعلمي لم يأخذ حقه في التحقيق، فهناك نوع من اللاتوازن في التحقيق، ولكي يتحقق لا بد من الرجوع إلى الخانات التي لم تأخذ حقها”.

وتابع الريفي “من المفروض صياغة خريطة ترشد الباحثين في العالم العربي للدخول إلى معترك التحقيق، ولا بد من إيجاد النصوص التي تستحق التحقيق والتي تكون مفيدة ونافعة ولا يترك اختيار النصوص على هوى الباحثين، بل من الضروري أن يتم توجههم للنصوص التي تضم النفائس والدرر”.

عمل مؤسسي

وأشار مدير معهد المخطوطات العربية إلى أن العالم العربي لم يصل بعد إلى برامج كاملة لدراسة المخطوط العربي ” ليس هناك برنامج كامل على مدى ثلاث سنوات ترصد له الموازنات ويكون ذا رؤية وبوصلة حضارية”.

لافتاً إلى أن “المعهد وضع اللبنة الأولى لمثل هذه المشاريع، لكنها بحاجة إلى توحيد قواعد التحقيق، فيجب أن تكون هناك مرجعية أو دستور للمحققين بمعنى أن تكون هناك نظرة واضحة في ما يتعلق بطبقات المحققين، مَن هو المحقق الفذ ومن هو المبتدىء؟ حتى لا يختلط الحابل بالنابل وحتى لايهب كل واحد ويعد نفسه محققاً كبيراً”.

الريفي يرى أن التوافق على معايير خاصة سيكون له أثر تنظيمي، فلا يترك الباب مفتوحاً من دون تنظيم، وسيكون بمثابة الإجازة العصرية للمحقق مثلما كانت في العصور الماضية عندما كان المحقق يمنح الإجازة لمريديه وطلابه.

ولفت مدير معهد المخطوطات إلى أن هناك صورة نمطية على العالم العربي بأنه عالم شفهي وأن إسهام الفكر العربي في الحضارة الإنسانية تكاد تكون بنسبة لا تذكر،

متابعاً “نريد أن نبعث برسائل مخالفة تماماً لهذه الصورة النمطية، ونؤكد بأن  التراث الفكري له عديد من الإشراقات المعرفية منها ما نال نصيبه من التحقيق والنشر ومنها ما لم تصله الأيادي والعقول الباحثة”.

ونوه الريفي إلى أن “ما يسوق للمخطوط العربي أنه كتاب ذو بعد متحفي مركون على الأرفف ولا يصلح للعصر، وأن العودة إليه هو هدر للجهد الفكري “.

مشدداً على أنه يريد أن يثبت عكس ذلك لأن “هذا التيه الذي يعيشه الشباب العربي من فرط استهلاكه للمضامين الفكرية الغربية بسبب ابتعاده من التراث”.

مستطرداً “نحن لا نقدس هذا المخطوط لأن فيه الصالح والطالح وبعض المتون لم تعد صالحة لهذا الزمن، ولكن هناك إشراقات فكرية تنم عن عبقرية عربية فذة منقطعة النظير “.

نهاية مرحلة

ضمن الإطار المؤسسي لتحقيق المخطوطات يرى محمود مهدي أن تحقيق النصوص كان في السابق ينصب على الجهود الفردية، ولكن الآن أصبح يسير على منهجية واضحة وعمل مؤسسي من خلال جهود معهد المخطوطات العربية الذي لا يقتصر الجهد فيه على تحقيق النص، ولكنه يمنح شهادة الدبلوم في علوم التراث والتحقيق.

وأشار مهدي إلى أن “ما تم تحقيقه خلال خمسة عقود حقق في العقدين الأخيرين أضعافه، وهناك إقبال شديد على دراسة علوم المخطوط العربي والدراسات التراثية وتحقيق النصوص”.

منوهاً بأن دراسة المخطوط في العالم العربي بحاجة إلى دقة أكبر لأنها تختلف عن الدراسات التي يقدمها المستشرقون في ألمانيا وفرنسا وأسبانيا، و”هناك جهود تتوفر لها مقومات النجاج فمن يرغب في التحقيق تفتح له أبواب المكتبات وتكون الجهود مؤسسة والعمل جماعياً”.

تحقيق النص

حصل كتاب “الشذور الذهبية في الألفاظ الطبية” على صفة كتاب العام التراثي وهو لمحمد بن عمر بن سليمان التونسي (1789-1857) وعبارة عن معجم علمي يضم أكثر من خمسة آلاف مصطلح علمي.

ويرى مهدي أن التحقيق في المخطوطات “محاولة لإخراج النص في أقرب صورة تركها المؤلف فيقدم للقارىء نصاً صحيحاًخالياً من التحريف والنقص وفيه إضاءة وإيضاح يقرب المفهوم إلى ذهن القارىء”.

وقال المتخصص المصري إن التحقيق في العلوم الشرعية تعنى بها مؤسسات أو مكاتب فردية وأغلب العاملين فيها هم من التيار السلفي، أما العلوم اللغوية وهي الأدب والبلاغة والشعر فتحقيق مخطوطاتها يقع ضمن نطاق أقسام اللغة العربية في الجامعات، بينما العلوم التطبيقية ليس لها حاضن سوى معهد المخطوطات العربية،

مشدداً على أن “التحقيق في التراث العلمي يحتاج إلى جهد ووقت ونفقات مادية، وهو قليل العائد لأن من يعنى بالتراث العلمي هو عدد محدود من الباحثين، كما أن عدداً قليلاً من المكتبات ترغب باقتناء هذه الكتب”.

معضلة المخطوط

يوضح متخصص التاريخ الإسلامي محمد الجميلي أن هناك توجهاً عاماً في الجامعات العراقية لدراسة المواضيع الفكرية والحضارية على حساب دراسة المخطوطات “ليست هناك رغبة لدراستها بداعي أنه لم يبق مخطوطاً إلا وتم تحقيقه، وهذا مبدأ غير صحيح فهناك خزائن من المخطوطات التي تتطلب من الطالب أن يبذل جهداً إضافياً لكي يحقق في النادر والنفيس منها ويقدم لنا كنزاً من الكنوز الدفينة”.

الجميلي الذي حقق أخيراً مخطوطة “ما قبل النهضة العباسية الأخيرة وما بعدها” لعلامة العراق مصطفى جواد التي بقيت حبيسة الخزائن عقوداً طويلة وأصدرها في كتاب مطبوع، يرى أن هناك مصادر دفينة حبيسة الخزائن لا تقل أهميتها عما تم تداوله لو تم تحقيقها ورأت النور، فقد تناقض في أفكارها بعض ما تعارفنا عليه من مفاهيم قديمة تخصص التراث العربي.

وفي السياق نفسه أضاف مدير عام دائرة المخطوطات العراقية أحمد العلياوي أن “دار المخطوطات تحاول لدعم وتشجيع دراسة التحقيق في المخطوطات ضمن المشاريع الجامعية”.

لافتاً إلى أن هناك مادة دراسة مقررة تخص التحقيق في المخطوطات لطلبة الدراسات العليا، لكن اختيار المواضيع الجامعية في مكان بعيد من هذا التخصص”.

نفائس غائبة

حمل يوم المخطوط العربي لهذا العام 2023 شعار “أخلاقيات العلم وآداب الطلب” التي تتعلق بآداب المتعلم وكيف تكون علاقة المتعلم بالمعلم، وكذلك علاقة المعلم بالمجتمع والأخلاقيات التي تحكمها.

الأمينة السابقة لمكتبة معهد الدراسات الإسلامية العليا نبيلة عبد المنعم داود تستذكر عملها قبل التحاقها بالدراسات العليا قائلة “عملت في أرشفة مخطوطات هذه المكتبة التي كانت تضم ثلاثة آلاف مخطوطاً ثميناً، فالبعض منها كان بخط اليد ومنها مصحف كتب على جلد أفعى، لكن المخطوطات في هذه المكتبة تعرضت للسرقة وضاع أهم ما فيها وهي التي دونت بخطوط أيدي مؤلفيها”.

داود التي لها الفضل الأول في إدخال تدريس المخطوطات ليكون أحد المقرارات الدراسية لطلبة الدراسات العليا وأشرفت على 400 رسالة جامعية منها 100 رسالة تعنى بالمخطوطات تقول “إن السنوات الحالية شهدت اهتماماً ملحوظاً بالمخطوط العربي، لكن هناك حاجة ملحة ليس للتحقيق والدراسة فقط، بل لنشر ما تتضمنه هذه النفائس في عالمنا المعاصر “.

المصدر: اندبندنت عربية

 

 

 

محرر الموقع : 2023 - 07 - 31