الدبلوماسية الموازية: كيف يمكن لمراكز الأبحاث التأثير في البيئة الخارجية؟
    

على الرغم من ملازمة العمل الدبلوماسي لموظفي وزارة الخارجية إلا أن هنالك العديد من الأبحاث التي شجعت على تطوير المهام الدبلوماسية للدولة، من خلال رفدها ببعض المؤسسات التي تدعم دورها في الأداء السياسي الخارجي للدولة خصوصاً في ظل التعقيدات التي تلازم النظام الدولي والإقليمي. فعلى الرغم من أن مهمة الدبلوماسي تعتمد على التمثيل والتفاوض إلا أن هنالك الكثير من المداخل التي يمكن من خلالها تحقيق المصالح أو الإنسجام مع الدول الأخرى دون اللجوء إلى هذه المهام فقط، إنما تطويرها بمداخل جديدة يمكن من خلالها تنويع قنوات الإتصال مع الدول الأخرى.

إلى جانب ذلك تفترض مهمة الباحثين في الدراسات الدولية والإستراتيجية على وجه الخصوص أن تكون لديهم خبرة عالية في كيفية التعامل مع القضايا الخارجية المتصلة بأمن دولهم، إذ أصبحت المراكز البحثية ذات دور يوازي عمل البعثات الدبلوماسية في الخارج بل يؤثر في فاعليتها في كثير من الأحيان، خصوصاً عندما يتصل الأمر بتلك القضايا التي من شأنها دعم جهود وزارة الخارجية في المحافل الدولية. الأمر الذي أنتج ما يعرف بالدبلوماسية الموازية والدبلوماسية العامة والتي ينشط فيها دور الخبراء في المراكز البحثية في هذا الشأن.

ولأن دور الدبلوماسيين مقيد بالأعراف الدبلوماسية والمجاملات الدولية فإن فتح أبواب للحوار أو توسيع المصالح المتفق عليها يتطلب بنية مجتمعية للقبول ورأي علمي قادر على تعزيز فهم المصلحة وهذا الدور أصبح يؤديه خبراء المراكز البحثية في معظم دول العالم مما جعل الدراسات المختصة بالدبلوماسية تعمل على تطوير مفهوم دبلوماسية المسار الثاني ليرافق في عمله الجهود التي تبذلها وزارة الخارجية في هذا الجانب.

مراكز الأبحاث من التوجيه إلى التنفيذ

ساهمت مراكز الأبحاث والدراسات على مدى التاريخ بدعم جهود الدبلوماسيين بنظريات ومداخل جديدة تساعد في زيادة التأمل بالطرق التي يمكنها تحقيق الأهداف المقصودة، فالكثير من المراكز المتقدمة في الولايات المتحدة الأمريكية ساهمت في صياغة العديد من الإستراتيجيات التي تقدم إلى مؤسسات الدولة كالحالة مع مؤسسة راند ومعهد بروكينغز التي دعمت السياسة الخارجية بالعديد من الطروحات، كان من أبرزها دراسة إستعادة التوازن التي قدمت فيها العديد من الخيارات التي تساعد مخططي الإستراتيجية الأمريكية للشؤون الخارجية في العالم قبل تولي الرئيس باراك أوباما إدارة البيت الأبيض.

وعلى الرغم من أهمية هذه المراكز في الولايات المتحدة خصوصاً في مجال السياسة الخارجية إلا أن الأمر لم يقتصر عليها فقط، إنما بدأت الكثير من وزارات الخارجية في العالم تبحث عن المداخل التي يمكن من خلالها معالجة المعضلات الدولية والتعامل معها وذلك بسبب إمكانية الخبراء والباحثين فيها بربط المداخل النظرية بالقضايا التطبيقية، ولعل هذا الأمر يفسر وجود مراكز للأبحاث في وزارة الخارجية نفسها تعمل على إعداد البحوث والدراسات المشتركة بين الباحثين والمتخصصين في وزارة الخارجية، كالحالة مع مركز سام في وزارة الخارجية التركية أو معهد الخدمة الخارجية في وزارة الخارجية العراقية، وبالنظر لكثرة التعقيدات التي تتسم بها البيئة الخارجية أصبح من غير الممكن تقديم المبادرات لزيادة التعاون أو إدارة المعضلات التي ترافق السلوك السياسي للدول بالطرق المباشرة للدبلوماسية وذلك لأن الأمر بحاجة إلى تأمين مقدار أكبر من الثقة في الخيارات المطروحة، الأمر الذي مكّن من تجاوز السلوك الدبلوماسي إلى استخدام الدبلوماسية الموازية كالحالة مع مراكز الأبحاث التي بدأ دورها يلوح بشكل واضح على شكل حوارات ومناقشات مشتركة ساهمت في دعم الجهود الدبلوماسية وتعزيزها.

يبدو أن الإنتقال الذي رافق الدبلوماسية الموازية كان مقترناً في بادئ الأمر بإسناد الوظائف إلى أحد المختصين في شؤون دولة معينة داخل مؤسسات الفكر وقد يتطور الأمر إلى إسناد مهمات خاصة لهذه المراكز في تنفيذ السياسة الخارجية كالحالة مع جيمس شليسنجر وزير الدفاع ومدير وكالة الإستخبارات المركزية، إذ قام تيد لارسون رئيس معهد أبحاث السلام في أوسلو PRIO بترتيب عملية المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في النرويج وبشكل سري، ومن ثم فإن القيام بمثل هذه المهام قد يتعارض مع القواعد الدبلوماسية التي تحكم سلوك موظفي الخارجية في هذا الجانب.

لقد عززت مراكز الأبحاث من دور العديد من الدبلوماسيين من خلال إنضاج مفهوم الدبلوماسية الوقائية أو تدريب الدبلوماسيين على قضايا تخص الوساطة وإدارة النزاعات الدولية، أو ورش التفاوض وتعزيز خيارات المفاوضين بوسائل دقيقة تعزز من دورهم في العملية التفاوضية.

ولأن المجاملات الدبلوماسية هي التي تحكم توجهات وزارة الخارجية بشكل عام بدأت مراكز الأبحاث والدراسات تتحرك كقنوات خلفية لإدارة الكثير من المعاضل في التفاعلات الدولية من خلال ورش العمل المشتركة التي تساهم في فتح قنوات للدبلوماسيين في البعثات الدبلوماسية وتعمل كذلك على تطوير قنوات الإتصال المشتركة في هذا الشأن من خلال الأعمال المشتركة بين هذه الأطراف، فضلاً عن ذلك أصبحت هذه المراكز تعمل على رفد مراكز صنع القرار بالخيارات التي يمكن التعامل معها في هذا الصدد من خلال إبراز المحاور التي تضمن المصالح المشتركة وتقاسم المنافع بين الأطراف المقصودة. ولعل هذا الدور بدأ يبرز بشكل كبير في الأداء السياسي الخارجي لتركيا في الشرق الأوسط وكذلك الحال بالنسبة إلى مصر، إلا أن الفرق بينها يبقى في درجة التنسيق بين هذه المراكز ووزارة الخارجية.

ولعله من خلال تطبيق هذه الأدوار مع الجهود الدبلوماسية التي تبذل في العراق نرى أن هنالك ضعف في التنسيق بين هذه المراكز ووزارة الخارجية، فمن حيث المبدأ الشكلي فمراكز الأبحاث في العراق يتم التعامل معها كمنظمات مجتمع مدني وليست مراكز للفكر والرأي، وهذا الأمر يضعف كثيراً من فاعليتها في الأداء الدبلوماسي الخارجي، أما من حيث المضمون فأن هذه المراكز لغاية اللحظة لم تحدد قنوات للإتصال بها بالمؤسسات المكلفة بصنع السياسة الخارجية وهي كذلك لم تضع لنفسها ملفاً يمكن التعامل معه كمجال لتخصصها كالحالة مع المراكز المتخصصة في الولايات المتحدة الأمريكية أو تركيا وإيران على المستوى الإقليمي.

إن وجود مراكز الأبحاث في دائرة الدبلوماسية الموازية والعمل كقناة للإتصال في المفاوضات أو الحوارات التي تجري بين الدولة والدول الأطراف يتطلب منها أن تعمل على إيجاد ملفات إقليمية أو دولية تتخصص فيها بحيث تكون لها أدبيات قادرة أن تولد خيارات جدية لصانع القرار ومخططي السياسة الخارجية، كما أنها بحاجة ضرورية إلى التفكير من جديد بالتنسيق مع وزارة الخارجية كي تكون قادرة على أن تصيغ فاعليتها بشكل مباشر في السياسة الخارجية.

د. علي فارس حميد/مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية

محرر الموقع : 2017 - 11 - 19