المشروع الفكري للدكتور علي المؤمن في تأسيس علم الاجتماع الديني الشيعي
    

د. الشيخ محمد علي الدليمي

(باحث وأكاديمي من العراق)

    المفكر والباحث والكاتب، العراقي المولد، الإسلامي الفكر، الدكتور علي المؤمن، نموذجٌ مثاليٌّ للباذل في سبيل قضايا أُمته؛ فقد سخّر جهوده الفكرية لمعالجة تلك القضايا الأكثر أهمية، وهي مشروعه الفكري الذي عبّر عنه بــ "الاجتماع الديني الشيعي"، وأوقف كل نشاطاته وجهوده عليه، وقد أينعت وأثمرت هذه الهمة العالية لقرابة ثلاثين مؤلفاً، عكست بشكل واضح مشروعا معلوم التوجه والهدف والغايات.

    صبّ الدكتور المؤمن اهتمامه وانشغالاته بهاجس الهوية الشيعية، خصوصاً العراقية، ومحاولاته لرصد ملامحها وحدودها وتفاعلاتها مع الهويات الأخرى؛ وينطلق في ذلك من رؤية إسلامية عامة؛ ففي كتابه "من المذهبية إلى الطائفية: المسألة الطائفية في الواقع الإسلامي" يسلط الضوء على المسألة الطائفية، كواقع موضوعي تراكمي في حياة المسلمين، تدخّلت عدة عوامل في صنعه وإنتاجه، ابتداءً من نشوئه كنتيجة للخلاف على موقع قيادة الأمة، ثم انتماءً مذهبياً، وصولاً إلى تحوله إلى صراع طائفي سياسي. ويشخص من خلال دراسته للطائفية، عمق المخاطر الناتجة عن هذا الواقع، وهي تحدق بالجميع، وهو بذلك يهدف الى الوصول إلى قناعة مشتركة بين حكماء الأمة من السنة والشيعة، تعمل على مد جسور التواصل وردم الفجوة بين طائفتيهما، لذلك؛ يؤكد بأن الطائفية خطر داهم يهدد مستقبل الأمة ويعوق نمو مشروعها الحضاري.

    وينطلق الدكتور المؤمن في مشروعه الفكري من الخاص (الشيعي) لينتقل الى الفضاء العام (الإسلامي)، حيث استطاع التعريف بالشيعة بوصفهم ظاهرة اجتماعية أو مكون اجتماعي له خصوصيته وتطلعاته، وأيضا مشاكله وإخفاقاته، وقد وُفق في الوقوف على ما تمتاز به الكتلة البشرية الشيعية، بعيداً عن الجانب العقدي أو الديني، أي أنه يهتم بالمكون الشيعي بكله الديني واللاديني؛ فمهمته رصد الخصائص الاجتماعية التي تميزه عن سواه. وقد كشف في كتابه "الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع" عن طريقة جديدة لفهم الظواهر؛ فهو حين يتطرق إلى الأصول التي يرتكز عليها المجتمع الشيعي، لم يقف عند حدود أصوله العقدية وقواعده الفقهية؛ إنما تجاوزها ليلامس نوعية المجتمع الإنساني ومساراته التاريخية، كاشفاً عن هوية ذلك المجتمع ومكوناته، وقواعده النظرية، وتراكماته التاريخية التي يستند إليها النظام الاجتماعي الديني الشيعي.

 مفهوم علم الاجتماع الديني الشيعي عند الدكتور علي المؤمن

     يهتم علم الاجتماعبدراسة الظواهر الاجتماعية في ميدان العلاقات الاجتماعية من الداخل والخارج، ويتناول دراسة السلوكيات والظواهر والكيانات والعمليات الاجتماعية التي تنتمي لميدان الوجود الدينية، ويهدف إلى تحليل أبنيتها والقوانين التي تخضع لها، وليست مهمته اختراع ظواهر الاجتماع الديني أو اختلاقها، ولا الاستدلال على صحتها وخطئها؛ لأنه ليس علماً تجريبياً ومعيارياً، ولا علاقة له بالسجال الديني والمذهبي، بل هو أداة لدراسة ظاهرة قائمة.

    وعلم الاجتماع الديني الشيعي عند الدكتور المؤمن هو أداة معرفية لاكتشاف معالم الظاهرة الاجتماعية الدينية الشيعية، وكشفها وتوصيفها وتحليلها، وتهندس هيكليتها المعرفية والعملية، وعلاقاتها الداخلية والخارجية، ومقارنتها بالظواهر الأُخر المشابهة أو المتعارضة، ويسمي مجموع هذه الطواهر المتعاضدة: "النظام الاجتماعي الديني الشيعي"، باعتباره ظاهرة مركبة، دينية اجتماعية تاريخية إنسانية، تستند إلى قواعد تأسيسية نظرية، عقدية وفقهية وتاريخية، وتقف على بنى اجتماعية دينية، واجتماعية سياسية، واجتماعية ثقافية، واجتماعية معرفية. وتمثل القواعد النظرية الدينية والبنى الاجتماعية الناشئة عنها؛ المداخل العلمية الأساس الكاشفة عن معالم النظام الديني الاجتماعي الشيعي. ولدراسة هذه الظاهرة الاجتماعية المركبة، لا بدّ من وجود أدوات منهجية معرفية تحتوي على أنساق وقوالب ومعادلات، تعمل على توصيف الظاهرة وتحليلها واكتشاف معالمها.

    ونظرية الدكتور المؤمن لا تُعنى بدراسة التشيع كمذهب ديني عقدي فقهي، ولا يتناول السجال الديني المذهبي في أبعاده العقدية والفقهية أو السجال التاريخي العلمي، بل تعمل على مقاربة تأثيرات هذه السجالات إنسانياً واجتماعياً وتنظيمياً وثقافياً وسياسياً؛ فهي معنية بالمجتمع الإنساني الذي أفرزه التشيع في مرحلة غيبة الإمام المهدي، وليس في مرحلة حضور المعصوم، أي ليس بالتشيع فقهاً وعقيدة.

    ولا يقصد الدكتور المؤمن بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي مفهوم المرجعية الدينية الشيعية، بل يقصد به ((النظام الجامع الذي تقف المرجعية الدينية على رأسه))؛ فالمرجعية تقود النظام ولا تتلخص فيه، في حين تشكل باقي المكونات أجهزة هذا النظام وقواعده البشرية. و"النظام الاجتماعي الديني الشيعي" عند الدكتور علي المؤمن هو مصطلح جامع يستوعب كل جوانب الكيانية الشيعية في بعديها النظري والعملي. وفي كتابه الذي بين أيدينا؛ يقارب حقيقة هذه الكيانية الاجتماعية الدينية الثقافية السياسية التي تعبر عن واقع الشيعة الإمامية الإثني عشرية، ومسارهم التاريخي والجغرافي، بوصفهم أكبر جماعة بشرية منظّمة في العالم، وتنتمي إلى مدرسة إسلامية تتميز عن غيرها من المدارس الإسلامية المنتسبة إلى فقهاء مدرسة الخلفاء والصحابة في فهمها للدين الإسلامي وعقيدته وفروعه، هي مدرسة أئمة آل البيت حصراً، وكذلك تتميز في قراءتها للتاريخ الإسلامي، وفي نفيها لشرعية الأنظمة السياسية التي لا تستمد شرعيتها من أصل الإمامة المنصوص عليها.

    وتتمثل دوافع الدكتور المؤمن لتأسيس علم الاجتماع الديني الشيعي، في حاجة "النظام الاجتماعي الديني الشيعي" الى دراسة علمية معمقة، بوصفه أهم ظاهرة اجتماعية دينية سياسية في العالم على الإطلاق، خاصة مع عدم قدرة مناهج علم الاجتماع الديني الوضعي على دراسة الظاهرة الدينية الاجتماعية الشيعية دراسة موضوعية تكشف عن حقائق الظاهرة وبناها المركبة.

منهجية بحث الاجتماع الديني الشيعي

    اعتمد الدكتور علي المؤمن في تقسيم تاريخ النظام الاجتماعي الديني الشيعي المنهج التاريخي الوصفي التحليلي؛ فقد قسمه إلى ستة عصور أساسية متتابعة، لكل منها مرحلة ومؤسس وقائد تاريخي، حتى وصول كل منها الى حالة الأفول التدريجي، وعلى الرغم من ارتباط هذه العصور بشخصيات ذات مكانة دينية، إلّا أن الدكتور المؤمن يؤكد على عنايته بالأدوار الواقعية للشخصيات، وما قاموا به، وليس على شخصياتهم الدينية والسياسية أو قداستهم ومكانتهم، رغم أنه لا يخفى ما للبعد الروحي والمعنوي من أهمية قصوى، وأثر ذلك على شخصية الإنسان. والعصور الستة هذه ليست عصوراً سياسية أو فقهية، ولا تمثل مفاصل علمية أو مكانية، بل مفاصل تاريخية لصعود شامل شهده النظام الاجتماعي الديني الشيعي، واستحكام دعائمه وقواه الميدانية، ومثل كل منها مرحلة ذهبية:

    العصر الأول هو عصر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو من منظار الاجتماع الديني الشيعي مؤسس النظام الاجتماعي الديني الشيعي، فضلاً عن كونه صاحب العصر الأول ميدانياً، ويؤرخ الدكتور المؤمن لنشوء النظام الاجتماعي الديني الشيعي بالعام 632 ميلادية، وهو العام الهجري الحادي عشر، أي بداية إمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد نشأت قواعد النظام على مبدأ (الإمامة)، والحدث المفصلي الذي أدى إلى ولادة هذا النظام وعصره الأول يتمثل في إبعاد الإمام علي عن إمامة الأمة، وقد استمر هذا العصر مدة 112 عاماً، أي في العام 132 الهجري.

    وعند ذلك التاريخ يبدأ العصر الثاني على يد الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، بعد سقوط الكوفة بأيدي العباسيين وانهيار الدولة الأموية، وشهد هذا العصر تبلور المدرسة الفقهية الشيعية، كما شهد هذا العصر إمامة الأمام موسى الكاظم والأمام علي الرضا والأمام محمد الجواد والأمام علي الهادي والأمام الحسن العسكري والأمام محمد المهدي المنتظر(عليهم السلام). وقد استمر هذا العصر 128 عاماً تقريباً. وقد ظهرت بوادر أفول العصر الثاني حينما شددت الدولة العباسية قبضتها على الشيعة؛ فتراجع نظامها الاجتماعي تدريجياً، حتى انتهى العصر الثاني بغيبة الإمام المهدي وظهور زعامة نائبه الخاص الأول الشيخ عثمان بن سعيد العمري في بغداد في العام 260هـ (874م).

     وشهد العصر الثالث الذي تأسس على يد السفير عثمان بن سعيد وهو مؤسس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة، بداية الغيبة الكبرى، وتأسيس الحوزة العلمية المركزية في بغداد، وهو يمثل أحد العصور الذهبية للشيعة؛ إذ تخلله سيطرة الحكومات الشيعية على أغلب العالم الإسلامي، لكن هذا العصر الذهبي انهار برمته على يد صلاح الدين الأيوبي.

    أما العصر الرابع؛ فإنه بدأ مع هجرة الشيخ الطوسي من بغداد إلى النجف الأشرف وتأسيس الحوزة العلمية المركزية في العام 448هـ (1056م)، وقد امتاز هذا العصر باستحكام الدعائم الفكرية والعملية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، وهيكليته وامتداداته في الجوار الإقليمي؛ إذ أسس الشيخ الطوسي للمركزية في النظام الاجتماعي الديني الشيعي، كما كان في عصر الأئمة الاثني عشر؛ فالنجف لم تكن مجرد حوزة علمية أو حاضرة دينية، بل تحولت ولأول مرة إلى عاصمة مركزية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، كونها مدينة شيعية خالصة، وهو ما لم يكن متحققاً في بغداد. وقد استمر هذا العصر ما يقرب من 459 سنة.

    وبتأسيس الدولة الصفوية في العام 907هـ (1501م) على يد السيد إسماعيل الصفوي الموسوي (الشاه اسماعيل فيما بعد)، بدأ العصر الشيعي الخامس. والدولة الصفوية هي أول دولة شيعية إقليمية منذ انهيار الدولة الفاطمية، قبل ذلك التاريخ بثلاثة قرون ونصف. وكان البناء المذهبي للدولة الصفوية يقوم على جهود الفقهاء العرب، ولذلك؛ فإنّ المنظومة العقدية والفقهية التي حكمت الدولة الصفوية؛ أنتجها علماء دين عرب، وليسوا فرساً أو آذريين. وقد استمر الصعود الشيعي السياسي والثقافي والاجتماعي لمدة (262) سنة، أي حتى انهيار الدولة الصفوية في العام 1763م.

    وقد تأخر ظهور العصر الشيعي السادس قرون طويلة، حتى نجاح الثورة الإيرانية وتأسيس الدولة الإسلامية الشيعية في إيران في العام 1979م؛ ليصبح الإمام الخميني (رحمه الله) ثاني مرجع ديني في التاريخ يؤسس لعصر شيعي بعد الشيخ الطوسي. وامتازت الدولة التي أسسها الإمام الخميني في أنها هي أول دولة شيعية عقدية في عصر الغيبة، تستند إلى مبدأ ولاية الفقيه، وأول حكومة إسلامية عقدية إمامية بعد حكومة الإمام الحسن بن علي. وقد انتشرت آثار هذا العصر الذهبي ليشمل جميع دول الحضور الشيعي، فضلاً عن بلدان الإسلامية والعالمية الأُخر.

المرجعية الشيعية وقيادة الأمة

    المرجعية الدينية الشيعية هي الامتداد الموضوعي للإمامة في عصر غيبة المعصوم، وهي الجهة التي يرجع إليها الشيعة في مجالات اختصاصها وصلاحيتها، وهي الشأن الشرعي الديني والدنيوي، وعلى أساسها تكون للمرجع الديني بصفته النوعية، ولايةً حصرية على جملة من شؤون المجتمع الشيعي، أطلق عليه الفقهاء مصطلح "ولاية الفقيه"، وهو مبدأ ثابت في الفقه الشيعي، ويتضمن الولاية على إصدار الفتاوى والأحكام الشرعية والولاية على الحقوق الشرعية والولاية على الأمور الحسبية والولاية على القضاء، ويتوسع بعض الفقهاء في إعطاء مساحة أوسع للفقيه؛ لتشمل الولاية على الحكم والدولة. ومردّ الخلاف بين الفقهاء بشأن ولاية الفقيه هي مساحة الحكم فقط، وبالتالي؛ فإنّ المرجعية الدينية مصطلح مرادف لمصطلح ولاية الفقيه؛ فكل مرجع هو ولي فقيه أيضاً بناءً على إجماع الفقهاء، ولكن هناك ولي فقيه ذو مساحة مقيدة تقتصر على الفتوى والأموال والقضاء والحسبة، ولا تشمل الحكم، وهناك ولي فقيه ذو مساحة عامة تشمل ولاية الحكم أيضاً.

    ولكل المسلمين مرجعيات دينية، أي أنهم يرجعون إلى العلماء، لكن المرجعية الدينية عند أتباع أهل البيت (عليهم السلام) متميزة ومختلفة، وهي أصبحت كيان منظم شامل. وقد استمرت المرجعية الدينية الشيعية على رأس النظام الاجتماعي الديني الشيعي منذ غيبة الإمام محمد بن الحسن (المهدي المنتظر)، وهي التي أوجدت هيكلية هذا النظام بالتدريج وبلورته، وحفظت من خلاله الشيعة من الضربات المتوالية والانهيار. وتشكل الحوزة العلمية الشيعية مركز هذا النظام، ولذلك؛ يقف المرجع الأعلى على رأس الحوزة العلمية والنظام الاجتماعي الديني الشيعي، ويقودهما على كل الصعد.

    ومصطلح (المرجع الأعلى) هو مصطلح عرفي وليس رتبة علمية، وقد أوجده بعض علماء الحوزة العلمية خلال القرن العشرين الميلادي لفرز المرجع الأعلم المتصدّي للشأن العام عن غيره من مراجع الصف الأول، وهو عُرِف حديث غير موجود حتى في الرسائل العملية للفقهاء المعاصرين، فضلاً عن القدماء وقد أُطلق لبيان أن مع تعدد المرجعيات الدينية في زمن واحد؛ فإن هناك مرجعاً أعلى يمكن أن يمثل الرأي الأصوب والأكثر سداداً وحكمة، ربما بهدف توحيد رأي المرجعيات الدينية برأي المرجع الأعلى وتوحيد قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي.

    وتتمتّع المرجعية الدينية بموقع اجتماعي وسياسي بالغ الأهمية، ولقد مارست أدواراً خطيرة في حركة الأُمّة وصناعة الأحداث والمواقف، حيث شهدت الحياة وتحوّلات كبيرة على مستوى الأُمّة والدولة صنعتها المرجعية الدينية، عبر توجيهاتها وفتاواها التي أصدرتها في أوقات حسّاسة فكانت القول الفصل والحكم القاطع في مجريات الأحداث الخاصة والعامة. ومع أنّ التاريخ الشيعي كان في أغلب فتراته يشهد وجود مراجع أَمْيَل إلى اعتزال شؤون السياسة، أكثر بكثير من الذين يهتمّون بها، إلاّ أنّ النموذجين يشتركان في المبدئية الصارمة التي تمثّل أشرق الميزات في المرجعية الشيعية.

    ويذهب الدكتور المؤمن إلى اعتبار بنية النظام الاجتماعي الديني الشيعي ومؤسسته الدينية، من الأمور التي يجب إعادة النظر فيها بين عصر وآخر، نظراً لما يستجد من أمور؛ فمن الطبيعي، خصوصاً مع اتساع مساحات النظام، وصلاحيات قيادته المرجعية، وحرية حركة مؤسسته الدينية، أن تنطلق وتتواصل دعوات التجديد؛ فإذا كانت مفاهيم (المرجعية الدينية) و(نيابة الإمام المعصوم) و(ولاية الفقيه) في المذهب الشيعي، من ثوابت عصر الغيبة؛ فإنّ هياكلها وأنساقها تظل دائماً من المتغيرات، والتي تفرض متطلبات الواقع والمستقبل ضرورة إعادة النظر فيها، وتعديلها وتطويرها. ويرى أيضاً أن إضافة مصطلحات جديدة لتوضيح مدلول المرجعية المعاصرة، ومحاولة إعادة تنظيم بنائها ومنها (المرجعية الرشيدة) و(المرجعية الموضوعية) و(المرجعية القائدة) و(المرجعية المؤسسة)، يعدّ نوعاً من التجديد المطلوب، ودليلاً على أنّ منظومة المرجعية والمؤسسة الدينية، فيها كثير من المرونة والقابلية على المراجعة والتجديد والتحديث في آليات عملها.

    ويرى الدكتور علي المؤمن إنّ وحدة النظام وعالميته واستحالة تجزئته، من أهم القواعد الوجودية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي تقف المرجعية على رأسه؛ فإذا ما انهارت هذه القاعدة؛ فإنّ النظام الشيعي سينهار برمته، لأنّ عالمية الإسلام ومذهب آل البيت تؤسسان لعالمية النظام الاجتماعي الديني الشيعي تلقائياً.

     وبنظرة سريعة إلى المسار التاريخي لتأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة الصغرى؛ سنجد أنّ الثمانية المؤسسين لهذا النظام، كان خمسة منهم عراقيين، وثلاثة إيرانيين، وأنّ حاضرة النجف العلمية أسسها فارسي إيراني خراساني، هو الشيخ أبو جعفر الطوسي، وأن مرجعية قم أسسها عربي عراقي، هو الشيخ محمد بن عيسى الأشعري. وهذه هي إحدى المعايير الثابتة التي تُسجَّل للتاريخ المرجعي، الذي ظل يمثّل التحدي لكل الضغوط المفروضة عليه هنا وهناك.

 قوة النظام الاجتماعي الديني الشيعي

    لم يكن مقدّراً للنظام الاجتماعي الديني الشيعي أن يستمر لولا امتلاكه للعديد من عناصر القوة الواقعية، فضلاً عن العقدية والروحية، التي دعمت ثباته واستمراره، ويرى فيها الدكتور على المؤمن ((سر حفاظ المذهب الشيعي والمجتمع الشيعي على بقائهما واستمرارهما، في ظل مساعي الإقصاء والاجتثاث التي ظل الشيعة يتعرضون إليها منذ نهاية دولة الإمام علي وحتى الآن)).

    يرى الدكتور المؤمن أن عناصر القوة هذه قديمةٌ قِدم النظام نفسه، إلّا أنّ تطورها ونمو تفرعاتها وتبلور مضامينها الفكرية والشعائرية والطقسية؛ احتاج إلى قرون كثيرة، لتخرج بالصيغ التي عليها الآن. ويحصرها المؤلف في اثني عشر عنصراً أساسياً، هي: القضية المهدوية، المرجعية الدينية، ولاية الفقيه، التماسك المجتمعي الديني، عالمية النظام الشيعي، الاستقلال المالي الديني، المراقد والمزارات، شعائر الإمام الحسين، إيران، المشاركة في الحكومات، الجماعات السياسية وجماعات المقاومة. وقد انتبه مؤسسو النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وغيرهم من الفقهاء والزعماء الدينيين والسياسيين والعسكريين الشيعة، عبر مئات السنين، إلى أهمية عناصر القوة الشيعية الواقعية؛ فعملوا على تطويرها وتنميتها. وفي الوقت نفسه، كان خصوم الشيعة يخططون ويعملون من أجل تدميرها، بهدف إفراغ المذهب الشيعي ونظامه الاجتماعي من هذه العناصر. ويرى الكتاب أن تقويم عناصر القوة هذه، وإصلاحها ودعمها، يجب أن يزداد كلما ازداد تأثيرها وحضورها في الواقع الشيعي.

    ولعل من ألأسباب الرديفة لقوة النظام الاجتماعي الديني الشيعي ونفوذه، هو المد الشيعي المعنوي والروحي والايدلوجي في العالم الإسلامي، والذي كان ولايزال يستند الى نجاح علماء الشيعة ومفكريهم وكذا مثقفيهم، في تَمثّل مدرسة التشيّع الإسلامي، عبر تحصين مجتمعاتهم معرفياً، وجعلها قادرة على الحوار والاحتجاج العقدي والفكري والفقهي والتاريخي مع الأخر الإسلامي والإنساني المختلف، حتى تجد أن أبسط مسلم شيعي في الحياة العامة، يحمل في ذهنه حججاً وتصورات وأفكاراً، يندر أن تجدها في مجتمع آخر.

الانتماء الشيعي

    يعد المفكر الدكتور علي المؤمن أن للانتماء والهوية امتداد طولي ليس يقيده شيء، لأن (( الإسلام في عقيدته وشريعته وأحكامه، دينٌ إلهي عابرٌ للحدود والقوميات))، لكن ذلك يتحقق فقط على المستوى العقائدي؛ فالخالق سبحانه وتعالى خلق البشر شعوباً وقبائل ليتعارفوا؛ فهل ثمة تعارض بين انتماء المسلم لدينه العالمي، وبين الوطن الذي يحمل جنسيته؟.

     هذا السؤال يعبر عن إشكالية تتعلق بالتوازن بين الانتماء القومي للمسلم وانتمائه الوطني وانتمائه لمنظومته الدينية الاجتماعية، وهي إشكالية واقعيةً وذات قدر كبير من الأهميةً والحساسيةً، وتزداد حساسيتها خصوصاً مع المسلم الشيعي؛ فالنظام الاجتماعي الديني الشيعي يتميز عن غيره من المنظومات الدينية الأُخر بكونه نظاماً عالمياً لا تحدّه الانتماءات الجغرافية والوطنية والقومية، وهو ما تعبِّر عنه القيادة العالمية للمرجع الديني الأعلى أو الولي الفقيه لها، وكذا الهيكلية العالمية للحوزة وتقاليدها، وهذا النظام الاجتماعي الديني متجذّر في الواقع الشيعي.

    ورغم ما تحظى به المرجعية الدينية من موقع شرعي مقدّس، إلاّ أنّها في بعض الفترات الزمنية تكون موضع عتب القاعدة الشيعية، خاصة الوسط الحركي؛ إذ برز ذلك بشكلٍ ملحوظ منذ ثلاثينات القرن الماضي وحتى سبعينياته، نظراً للتطوّرات السريعة والخطيرة التي شهدها العالَم الإسلامي. وقد كان جيل الحركيّين يتطلَّع إلى آفاق كبيرة في حركة تغييريّة شاملة تعيد المجتمع إلى جذوره الإسلامية فكراً وسلوكاً، ولاسيما في المرحلة التي خاض فيها هذا الجيل مواجهة واعية مع التيارات الفكرية والسياسية الإلحادية والعلمانية أو المنحرفة عن الإسلام.

    ويتجذّر واقع عالمية النظام الاجتماعي الديني الشيعي؛ كلما ازدادت ضغوطات السلطات الطائفية على الشيعة وقمعها لهم، لأنّ الشيعي سيزيد من احتمائه بنظامه الاجتماعي الديني العالمي؛ كلما تصاعدت ضده عمليات القمع والإقصاء، وهو رد فعل واقعي طبيعي، يضاف إلى أصل عالمية المنظومة الدينية الشيعية. ولكن؛ حين يعيش الشيعي في ظل دولة العدالة والمواطنة والإنسان والحريات والتعددية الدينية والمذهبية والفكرية، والبعيدة عن القمع المذهبي والتمييز والتهميش والعزل الطائفي والقومي؛ فإنّ انتماء الشيعي الحقيقي سيكون لوطنه، في حين سيبقى انتماؤه لنظامه الاجتماعي الديني العالمي في حدوده المتعارفة والمقبولة من الناحيتين السياسية والقانونية. ويدلل على ذلك بالإشارة إلى تجارب ناجحة للشيعة في بعض البلدان؛ إذ استطاعوا، ولو بشكل نسبي، تحقيق قدر كبير من التوازن بين الانتماء للمذهب والانتماء للوطن.

    ويثبت الدكتور المؤمن واقعية نظريته بقوله: ((ليس من الواقعية أن يعمل الشيعي على تجاوز انتمائه الوطني، وأيضا ليس من الواقعية أن يتجرد عن الانتماء لنظامه الديني الشيعي العالمي أيضاً، وهو يستطيع التوفيق بين عالمية انتماء الشيعي لمنظومته الدينية الاجتماعية، وبين محلية انتمائه لمنظومته الوطنية القانونية والسياسية، في ظل توافر الظروف الموضوعية المحلية لذلك؛ فهي انتماءات تكمل بعضها، ولا تعارض بينها، لأنّها بمجموعها تكرس صفات التدين والالتزام والوطنية في المجتمع الشيعي)).

    وموضوع اندماج المجتمع الشيعي المحلي بمجتمع الأكثرية المذهبية السنية وبمجتمع الدولة السنية، هو موضوع معقد ومتعدد الجوانب، وينطوي في تفاصيله على عقد واشتراطات وملابسات كثيرة، في مقدمتها تحديد دلالات الاندماج وأطرافه ومداخله وممهداته ومخرجاته وتبعاته، والحقوق والواجبات الملقاة على عاتق كل طرف؛ فالأنظمة الطائفية تريد من هذا الاندماج أن يذوب المجتمع الشيعي المحلي بمجتمع الدولة وبمجتمع الأكثرية المذهبية، وأن يرضى بمنظومة الحقوق والحريات والسياقات السياسية المذهبية التمييزية في الدولة كما هي، أمّا في ظل الأنظمة المعتدلة نسبياً؛ فإنّ الاندماج حاصل وناجح نسبياً قبل ظهور دعوات الاندماج، وهو ما نجده ــ مثالاً ــ في تجربتي سلطنة عُمان ودولة الكويت.

    لكن مشروع الاندماج لا يمكن أن ينجح مع إصرار الأنظمة على سياساتها الطائفية التمييزية؛ فعملية الاندماج ليست مهمة أحادية تقع على عاتق المجتمع الشيعي أو الفرد الشيعي وحسب، بل إنها بالأساس مهمة أنظمة الحكم السنية ومؤسساتها الدينية، والجماعات السياسية والدينية والمدنية، لكي تبادر إلى توفير الظروف الموضوعية الواقعية لهذا الاندماج، فلن يحدث الاندماج الإيجابي الحقيقي المطلوب إلّا بأن يكون الشيعة مواطنون كاملي المواطنة، ودون أي تمييز طائفي. وبالتالي؛ فإنّ مدخل الاندماج الحقيقي يكمن في تغيير القوانين والأعراف والسياسات الطائفية الحاكمة في هذه البلدان.

    ويستشرف الدكتور علي المؤمن مستقبل المرجعية الدينية الشيعية بعد رحيل السيدين السيستاني والخامنئي، وقبلها يطرح نماذج المرجعيات الشيعية المطلقة في القرن العشرين، ثم يخلص إلى أن نظام المرجعية الدينية الشيعية معقد جداً في حقيقته، وسهل في ظاهره؛ ففي داخل المؤسسة الدينية الشيعية التي تمثلها الحوزة العلمية، فواعل تتحكم أو تسهم في تحديد أعلمية المرجع الأعلى، دون تنسيق في الغالب بين تلك الفواعل، بل أحياناً تكون متدافعة ومتباينة في توجهاتها.

 ختامها

    يَدرُس علم الاجتماع الحياة الاجتماعية للبشر وكيفية تفاعل الناس ببعضهم، وعلاقات الجماعات والمجتمعات، وثقافاتها وعاداتها، وتأثيراتها على من حولها وعلى العالم، ويضم علم الاجتماع على مجموعة من التخصصات الأكاديمية التي تساعد على شرح كيفية عمل المجتمعات وتطوّرها، والعوامل التي تؤثر عليه سلبًا وإيجابًا في جميع نواحي الحياة؛ فعلم الاجتماع العام يهتم بدراسة الأشكال الأساسية للمجتمع وقواه الأساسية، أما علوم الاجتماع الخاصة فإنها تتناول الميادين الاجتماعية المختلفة، كعلم اجتماع الأدب وعلم الاجتماع السياسي وعلم اجتماع المعرفة، وكذا علم الاجتماع الديني الذي يهتم بدراسة الظواهر الاجتماعية في ميدان الدين والعلاقات الاجتماعية للدين في داخله ومع الخارج.    ويُعد تطوير علم الاجتماع من خلال نقد وتقويم مناهجه وعلمائه، أحد أهم وظائف علم الاجتماع، وهي وظيفة علمية تهدف إلى تطوير هذا العلم ورفع درجة كفاءته ودقّته في استخلاص القوانين الاجتماعية التي يمكن من خلالها التنبؤ بمسار المجتمع الإنساني بصورة أفضل.

    ومن منطلق التقويم والتجديد والتفريع الذي يمثل دينامية علم الاجتماع؛ فإن تنظير الدكتور علي المؤمن لاجتماعٍ ديني شيعي ووضع قواعد علم اجتماعٍ ديني شيعي، يتجاوزان الخشية من الاتهام بالطائفية أو المذهبية، أو الاتهام باللامنهجية، لأن المعالجات والمقاربات التي قام بها الدكتور المؤمن في هذه المجال، هي مقاربات علمية تنتمي الى المنهجية الأكاديمية، ولا علاقة لها بالمذهبية والطائفية. ويظل مشروع المفكر الإسلامي العراقي الدكتور علي المؤمن، المشروع العلمي الأول الذي نجح في تأسيس ما يمكن أن نطلق عليه "علم الاجتماع الديني الشيعي"، وهو العلم الذي يدرس ويحلل المجتمع الشيعي على المستوى المعرفي والسلوكي والانفعالي، ويبيِّن الأسس الاجتماعية والتاريخية والنفسية التي يتشكل عليها هذا المجتمع كطائفة وهوية. وقد كشف المؤلف عبر الفصول التسعة المكونة لهذا الكتاب وكثير من بحوثه الاجتماعية الدينية الأُخر، عن نوعية المجتمع الإنساني الذي تم تأسيسه على فكر مدرسة أهل البيت، ومساراته التاريخية، كاشفاً عن هوية المجتمع ومكوناته، وقواعده النظرية، وتراكماته التاريخية التي يتكئ عليها النظام الاجتماعي الديني الشيعي.

    وبما أن مجتمعات الدين والمذاهب هي ظواهر اجتماعية عالمية؛ فإن ما قام به الدكتور المؤمن هي نظرية أو منهجية رائدة وملهمة، ليس فقط في ميدان الدراسات الشيعية فقط، أو مجرد تأسيس لعلم جديد، عنوانه علم الاجتماع الديني الشيعي وحسب، بل هي محاولة تمهيدية لتأسيس علوم اجتماع دينية مماثلة، حتى وإن اختلفت الطوائف والمذاهب محل الدراسة. وهو ما يدعو المفكرين والأكاديميين وعلماء الدين المسلمي، وكذا غير المسلمين المهتمين بموضوعات الاجتماع الديني، الى الاطلاع على كتاب الدكتور المؤمن: "الاجتماع الديني الشيعي" وعموم مشروعه الفكري، لأن الاطلاع عليه سيقود الى الاطلاع على حقائق مجتمعات المذاهب والأديان، عبر الدراسات التي يكتبها المتخصصون من أبناء هذه المجتمعات؛ الامر الذي سيصحح أغلب الأخطاء والشبهات حيال هذه المذاهب والطوائف، ويمهد للحوار والتقارب بين المذاهب الإسلامية والأديان العالمية، وهو ليس هدفاً علمياً وحسب، بل هدفاً إنسانياً متعالياً.

محرر الموقع : 2023 - 05 - 20