لماذا تركت العراق ؟ الحلقة الثانية
    

 

 

 

 

في الحقيقة تركت كل الدول العربية و الأسلامية لا العراق فقط لأنها المنفى .. لأنها غياب الوطن, لأنها غياب الكرامة, لأنها مرتع للنهب و السلب و تعميق الفوارق الطبقية بعناوين مختلفة وخادعة كخدمة الوطن و الناس و غيرها من الأوهام و المقدسات المزيّفة, و تلك هي المنفى الحقيقي !

ألمنفى يعني غياب الوطن؛ غياب القرين الصالح, و هذا لا يعني إن هذا (الغياب) مشروط بحدود المكان و الجغرافيا فقط، فقد يكون الغياب الحقيقي و الأمر داخل جغرافيا الوطن نفسه خصوصاً في بلادنا، و المفارقة تكمن هنا، وهي أن العقائد التي تهيمن على واقعنا و تاريخنا، لا تجد وطنا في قاموسها، هناك دِين قوميّة أو اشتراكية او بعثية علمانية أو ما شابه، أيّ أنها تناضل لتحقيق و بناء فكرة، و ليس وطن!

الوطن ربما هو مفهوم حديث، لكنه ليس فكرة فقط؛ إنه بحاجة لجغرافيا لكي يتحقق فيها إلى جانب مواطنين يعرفون حقّ المواطنة, و كذلك نظام يؤمن بـ (الحقوق الطبيعية للجميع) على الأقل, و أولى تلك الحقوق هي الأمن و الحرية و العيش الكريم.

ولو القينا نظرة على خطاب معظم حركاتنا الفكرية و السياسية التي تعتمد أساساً فلسفياً لوجدناها عابرة للجغرافيا، بل (الفلسفة الكونية العزيزية) عابرة للواقع و الجغرافيا باتجاه السماء السابعة!

إنّ الطغيان الحزبيّ و العشائريّ و الدّينيّ والسياسيّ و التحاصصيّ في حياتنا ألعراقية و العربية و الإسلامية و حتى الغربية, قد دمّر معايير المواطنيّة و الحرية و العلاقة مع الآخر و مع الخالق و المخلوق و الطبيعة، و التي كانت أصلا هشّة و في طور النمو، و الغريب أن هذا التدمير جرى و يجري متوازياً مع تغيّر مضمون فكرة الوطن و فلسفة الحكم نفسها دولياً و عالمياً، فلم يعد الوطن حيث الولادة و العائلة .. بل حيث الحرية و الأختيار و العمل.

أصبح المنفى مكاناً يبعث الطمأنينة لحدود لا بأس بها و يتيح فرصاً كثيرة لممارسة ما نشاء بحرية و إبداعيّة في كثير من الجوانب لا كلها.

خلاصة الكلام : المشكلة تكمن في العقل العراقيّ و العربيّ و الأسلاميّ الذي يؤكد على أصالة الفرد و تقديس الشخصيات بشكل لا محدود دون النظر إلى إصالة المجتمع و مستقبله, و حلّ هذه الجدلية أيهما أولى؛
(إصالة الفرد) أم (إصالة المجتمع) ما زالت قائمة و غامضة بسبب التفسيرات المتباينة بين الأنظمة في العالم .. على الأكثر بين الأنظمة العلمانية الرأسمالية و النظام الإسلامي الذي لم يحكم الأرض سوى فترة محدودة جداً و غاب للآن و لم يعد بعد بسبب إنتشار الجهل بشكل مرعب بين أحزابنا و حكوماتنا التي لم تسمع و لم تعرف للآن معنى الأصالة الفردية و المجتمعية و غيرها بكل عناوينها فإنتشر الجهل و الغباء بين الناس أيضاً نتيجة لأربعة أسباب هي :

ألأولى : التربية و التعليم بكل مراحلها حتى بعد الجامعية.
ألثانية : الدّين السائد الذي يسعى لحفظ نفسه دون المتدين.
الثالثة : ألأعلام المؤدلج و المتجه لحفظ الحاكم و الحزب لا لنشر الحقيقة التي هي الأخرى مجهولة لديها, أو عدم وضوحها .
الرابعة : محاربة المفكريين الحقيقيين و الفلاسفة الذين على يديهم تنجو الأمم من الضلالة و يحققون الحضارة, لأنهم منبع التنوير و بيان الحقائق لمعرفتهم بإسرار الوجود و الهدف من الخلق, لذلك يتمّ خنقهم و محاصرتهم مع عوائلهم حتى على لقمة العيش و عدم دعمهم و فسح المجال أمامهم لبيان الحقيقة للعالم و إيصالها للناس الذي سينتفضون حتماً ضد مصالح الحكومات و الأحزاب الحاكمة و المتحاصصة للتسلط و سرقة أموال الناس, لهذا لا أمان ولا حرية و لا إختيار سوى الفساد و العنف و الفوارق الطبقية ..

نحن شعوباً محتلة دينياً ؛ و محتلة عسكرياً ؛ و محتلة سياسياً ؛ و محتلة عقائدياً ؛ و محتلة مذهبياً ؛ و محتلة حزبياً ؛ و حكوميّاً و لا مفرّ من التحرر منها إلا بإطاعة القانون الذي وضعوه و حددوه حسب مقايسهم الجاهلية لتحقيق مصالحهم الحزبية و الفئوية بآلدرجة الأولى ولا وجود فيها - في تلك القوانين - لشيئ إسمه المساواة و العدالة و الحرية و ألأختيار ولا للحقوق و المساواة حتى الطبيعية منها - إلا بإرادة و إدارة المحتليين الذين أشرنا لهم!!؟؟

المفكر الحقيقي وجوده يغيض المحتليين بجميع أصنافهم ويؤرّق ليلهم بجميع أتجاهاتهم و عقائدهم .. لذلك لو أردت إغاضة محتل متعصب منهم يكفي أن تتحدث معه لأن المرء مخبوء تحت لسانه :
إدعوه للنقاش لبيان موضوع معرفي أو سبب صلاته و هدف معتقده أو إيّ سؤآل من هذا القبيل و التي أوردناها بعنوان (ألأربعون سؤآلا) منها في موضوع مشهور حيث يفتقدون للبرهان و الدليل لأنهم أمّيون فكرياً و عقائدياً ..

مثل هذه العقول التي لا تتحمل حتى مجرد سؤآل تنويري لأنقاذه من الوحل الذي غطس فيه بإرادته؛ لا يُمكنه أن يقود حتى عائلة سليمة ولا حتى نفسه ..  فكيف يُنصب كرئيس أو وزير أو عضو برلمان أو حتى مدير عام ...؟
لأنه سيكون مدمراً للمحيط الذي يحكمه بكل وسيلة و طريق و هذا ما تجسد في واقع العراق على كل صعيد ؛ الزراعي ؛ الصناعي ؛ التكنولوجي ؛ الإداري ؛ الصحي و التعليمي و الخدمي و غيرها!؟
لأنه بكل بساطة غير مثقف أولاً و لا يؤمن بقيم العدالة الكونية, و الوطن عنده بقعة أرض إحتلها بـ(آلجهاد أو الحصص أو المذهب أو السياسة أو العمالة), بينما (الوطن) أساساً هو مفهوم علماني بالضرورة، و هو أخطر على الدِّين وايّ عقيدة من الإلحاد والعلمانية نفسها.

والمفارقة لا تنتهي عند هذا الحدّ فقط - كل مؤمن بتلك الأفكار الضيقة يعيش المنفى مضاعفا - يعيش منفيين كبيرين في المنفى ؛
المنفى الداخلي لغرابة الأفكار التي يحملها و التي لا تناسب طبيعة ليس الأنسان فقط .. بل و حتى البشر!

و المنفى الخارجي ؛ لعدم قبوله للآخر ضمن حدود الوطن و الأنسانية و العدالة, بل يريد الريادة و الحكم لنفسه و البقية يجب أن يكونوا تبع يتم تقسيم الأدوار لهم و بينهم.

و المحنة و القضية المتشكلة ؛ إنما هو في الداخل .. و لم يؤثّر في منفاي أو بتغيير الأمكنة.

و بما أنّ المنفى ليس مسألة جغرافيّة، و إنما هو مسألة ثقافية - فكرية موافقة للعقيدة الصحيحة و المفقودة هي الأخرى؛ فإنّ العلاج، إذاً لا يأتي من خارج، بل من الداخل.

والسؤال هو نفسه: ماذا أفعل داخل ثقافةٍ أشعر بأنني منفيّ فيها و منها؟

إذاً نحن بحاجة إلى تغيير أنفسنا (دواخلنا) و (أفكارنا) تجاه الخلق و الخالق و الطبيعة .. و هذا ما لا يحبذه معظم الناس .. إن لم نقل كلهم مع وجود حكومات تقتر عليهم رزقهم فينشغلون في الحصول عليها , فلا يبقى لهم وقت و هم أساساً لا يميلون لها إن لم يكن يحاربونها!؟

و من هنا تنطلق الحقيقة المشوهة - المظلومة بسبب الطغاة و الساسة المغرضين في الأحزاب و الحكومات التي تتشكل هنا و هناك لتسخير و لتعبيد البشر و تسخيرهم في الأجهزة القمعية و العسكرية كقطعان من البقر و الحمير.. أفضلهم لا يعرف إلى أين يسير و لماذا يحارب و من يحارب .. بل لا يعرف لماذا وجد أساساً في هذا الوجود؟ و من هو و من ربه و هل للوجود بداية و نهاية ووووو!؟

ألتعصب الحزبي و المذهبي و العلماني و الإشتراكي و الليبرالي و الحزبي و القومي و اليساري و اليميني و الشمالي و الجنوي بكل ألوانه هو الذي يمنع الإنسان من التطلع حوله حيث يعيش و يمارس نشاطه ضمن أطر محدودة و مجردة من القيم الكونية، التي يعتبرها لا حاجة لها لأن الأنسان عدو ما جهل، و لأن وظيفة المؤمن، أن يكون عبداً صالحاً و ليس إنساناً صالحاً، وليس من واجبات العبد الكشف عن حقائق جديدة، إنما شرح الحقائق التي أُوحِيت الى خاتم الأنبياء، وبُلّغت في رسالة سماوية هي خاتمة النبوّات. الادعاء بوجود حقائق أخرى، كفر بواح وباطل شرعا وحكماً.

من هذا المنطلق الخطير ؛ تعددت المصائب في بلادنا و العالم للأسف الشديد!!!

أي أننا لا نحتاج التأمل في المستقبل حتى لو اكتشف الإنسان علوما ومعارف جديدة، نحتاج فقط مراجعة الماضي .. الذي قال كل شيء على لسان الوحي.

لا توجد ثقافة ولا علوم عدا علوم الدّين و المذهب المؤدلج بشكل خاص!!

أما العقل فيكتفي بالنقل و التبعية وإبراز الكامن في النصوص، و المبالغة في إطرائها و تحسين طرق نشرها وترسيخها في النفوس والعقول!
و يشيعون بأن العقل قاصر ومحدود وعليه أن يكتفي بدور الخادم.

المستقبل طريق مجهول وخطر لن يؤدي بنا إلى الكمال، يجب التوجه نحو الماضي حيث لحظة الوحي ففيه مستقبلنا و آخرتنا و مصيرنا!!؟

و بآلنتيجة مع هذا الجهل المركب العميق ؛ لا يبقى أمام المفكّر الحقيقيّ و الفيلسوف سوى التغرّب للحفاظ على حياته و تأمين لقمة خبز لعائلته على الأقل و التخلص في نفس الوقت من كيد المرتزقة و المنغلقين الحزبيين و اللوبيات و المليشيات و المتعصبين الذين يتمّ تغذيتهم من المستغليين للدِّين و الوطن و المناصب لأكل الدّنيا.
ألعارف الحكيم : عزيز حميد مجيد.

 

 

 

 

محرر الموقع : 2024 - 02 - 01