آيات قرآنية من كتاب أبو طالب ثالث من أسلم للسيد الحسني (ح 2)‎
    
د. فاضل حسن شريف
 
جاء في کتاب أبو طالب عليه السلام ثالث من أسلم للسيد نبيل قدوري الحسني: بعد أن أجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على سؤال أبي طالب عليه السلام مبيناً له منزلة هذا الدين الذي جاء به، عرض عليه أن ينظم إلى هذا الركب ويدين بهذا الدين الذي ارتضاه الله لنفسه و لأنبيائه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن دخلت معي فيه)؟. هذا العرض لم يكن عرضاً عادياً بل هو عرض من نوعٍ خاص يكشف عن عظم شخصية أبي طالب عند نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلذلك نجد أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قدّم مقدمة قبل أن يعرض على عمه هذا العرض، وهذه المقدمة هي: التعريف بمنزلة هذا الدين عند الله عز وجل. وعليه، فإن الأنبياء والمرسلين عليهم السلام كانوا يقومون بمسؤولية التبليغ لهذا الدين، وانهم كانوا يعملون على نصرة النبي وشريعته؛ والشواهد القرآنية في ذلك كثيرة منها: 1 . "وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)" (البقرة 130-131). 2 . "وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (البقرة 132). 3 . "أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (البقرة 133). ومن هنا جاء عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي طالب عليه السلام يحمل معه هذه المقدمة التعريفية بمنزلة هذا الدين وأنّ لك منزلة خاصة إنْ سلكت منهج أولئك الأنبياء عليهم السلام في نصرة هذا الدين. وإلا كان يمكن أن يقول له (هذا دين الله) دون الإشارة إلى دور الأنبياء منه وعلاقتهم به. ولذا نجد ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتبعها بكلمة (معي) ليبين المنزلة التي سينالها أبو طالب عليه السلام عند دخوله هذا الدين.
 
وعن سرية الدعوة النبوية خلال السنوات الأولى لانطلاقها يقول السيد الحسني في كتابه: فالصورة التي تناقلتها ألسُن الرواة ودونتها أقلام الكُتّاب هي: (أن الدعوة إلى الإسلام كانت سرية لمدة ثلاث سنوات، أو كما يسميها البعض بـالدعوة سراً)، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخفي هذه الدعوة، و ان الذين استجابوا لهذه الدعوة كانوا يتسترون و يخفون إسلامهم ويتخذون من شعاب مكة محلاً لتعبدهم وملاذاً لمتنفسهم الإيماني. ومن جهة أخرى كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد اتخذ أحد الدور مقراً لهذه الحركة الجديدة في مكة، هذا المقر هو (دار الأرقم بن أبي الأرقم) الذي من خلاله كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يلتقي بالمسلمين ويرى احتياجاتهم ويوجههم، وكان ينتظر أن يكتمل له عدد معين وهو أربعون مسلماً ليعلن دعوته. فلما تحقق العدد في هذه المدة من السنين أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إلى الإسلام بعد أن هبط عليه الوحي بقوله تعالى: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ" (الحجر 94). فانطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلن عن أمر النبوة ويدعو إلى التوحيد مبتدِئاً بعشيرته الأقربين امتثالاً لأمر رب العالمين. والنتيجة: يجد الباحث صورةً متكاملة الحلقات أشبه ما تكون بتنظيم حركي سياسي يحمل آيدلوجية معينة على أنه واقع لحقيقة اسمها: (سرية الدعوة). بينما حقيقة الحدث تختلف جذرياً عن الصورة التي رسمتها أيدٍ مبرمجة حسب أغراض ومصالح مختلفة. أن يكون أحد أهداف نظرية سرية الدعوة اتهام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشك في نفسه (والعياذ بالله)، وهذا ما صوره أحد الكتاب المعاصرين في وصفه حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلال هذه الفترة ومظهراً للوجه الفقهي في سرية الدعوة بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن مطمئناً من أنه نبي مرسل وأنه كان في دائرة الشك فلذا احتاج إلى ثلاث سنوات لكي يقطع الشك في نفسه ويطمئن ويوقن بأنه نبي وان ما يأتيه هو الوحي لأن هذا من مسؤولياته إذا نفسه أولاً. وهذا نص قوله: (فأدنى درجة في المسؤولية هي مسؤولية الشخص عن نفسه، ومن أجل إعطاء هذه الدرجة حقها استمرت فترة ابتداء الوحي تلك المدة الطويلة التي رأيناها، أي: ريثما يطمئن محمد إلى أنه نبي مرسل، وأن ما ينزل عليه إنما هو وحي من الله عز وجل، فيؤمن هو بنفسه أولاً ويوطن ذاته لقبول كل ما سيتلقاه من مبادئ ونظم وأحكام).
 
ويستطرد السيد نبيل قدوري الحسني في كتابه أبو طالب عليه السلام ثالث من أسلم: ونحن نسأل هنا: 1 ــ إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير مطمئن من انه نبي مرسل كما يدعي الكاتب، فكيف له أن يدعو غيره إلى هذا الدين خلال هذه الفترة التي وصفها بقوله (الدعوة سراً) وكيف سيدعو غيره إلى الإيمان وهو كما يقول الكاتب: (فيؤمن هو بنفسه أولاً ويوطن ذاته لقبول كل ما سيتلقاه)؟. 2 ــ إذا كان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يسمع ويرى الوحي خلال مدة طويلة وهو كما تقول (غير مطمئن) فالذي آمن ولم ير ويسمع يكون حسب وصفك أعظم إيماناً والعياذ بالله. بمعنى آخر: قد جعلت من آمن بالله خلال هذه الفترة التي سميتها (بالدعوة سراً) أصدق إيماناً وأثبت يقيناً لأنهم آمنوا ولم يروا ويسمعوا الوحي كما هو حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. 3 ــ وكيف يحصل الإيمان والاطمئنان للأجيال التي دخلت الإسلام دون أن ترى نبي الإسلام؟ فضلاً عن الملائكة أو الوحي؟. فحسب هذا القائل قول الله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا" (الاحزاب 57). وأي أذى لله ورسوله أعظم من جعل سيد الأنبياء والمرسلين شاكاً والعياذ بالله في نبوته خلال مدة طويلة. وعليه: فليس هناك ما يسمى (بالدعوة سراً) أو (الفترة السرية) للدعوة وإنما هي الفترة التمهيدية للدعوة العامة، أو الفترة الانتقائية والتي كانت محصورة بمكة وفي بعض الإفراد. وبمعنى أدق: إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان خلال السنين الأولى ينتقي من الناس من يجد فيه الأهلية لتحمل مسؤولية الدعوة والتبليغ فيدعوه إلى دين الإسلام فكانوا ثلاث أنفس وهم: (علي بن أبي طالب فهو أول من اسلم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أولكم واردا على الحوض أولكم إسلاماً علي بن أبي طالب). والنفس الثانية: هي الطاهرة خديجة بنت خويلد عليها السلام. والنفس الثالثة: هو شيخ الأبطح، وحامي النبوة، وكافل الرسالة، أبو طالب عليه السلام. ثم التحق بهم الصحابي المنتجب (أبو ذر الغفاري) الموصوف بأنه صاحب أصدق ذي لهجة)، والظاهر أن التحاقه كان في آخر السنة الثالثة من البعثة أو الرابعة من البعثة. فكان هؤلاء أول من شملهم اللطف الإلهي ضمن هذه الفترة التمهيدية.
 
ويستمر السيد الحسني قائلا: فإذن: لم تكن هناك دعوة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلال هذه السنوات الأولى لاعتناق الإسلام إلا لهؤلاء (علي وخديجة وأبي طالب) عليهم السلام. وان جميع الذين دخلوا الإسلام انما كان دخولهم لهذا الدين بعد نزول الأمر الإلهي بالمضي في إظهار النبوة والدعوة إلى الإيمان بها. فقال عز وجل: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ" (الحجر 94). فهذه حقيقة واقع الدعوة النبوية خلال السنوات الثلاث. وبما ان هذا الواقع لم يتناسب إطلاقاً مع ما لحق بالمسلمين من متغيرات كثيرة رافقت حياتهم وواقعهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سياسياً ومذهبياً. فإن هذا الواقع الجديد دفع البعض إلى اختلاق نظرية (سرية الدعوة) لأجل تحقيق تلك الأهداف المذكورة آنفاً. أما لماذا اقتصرت الدعوة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هؤلاء الثلاثة؟. فالجواب هو للأسباب الآتية: 1 ــ إنّ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لم يؤمر بدعوة عامة الناس خلال هذه السنوات الأولى حتى نزل قوله تعالى: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ" (الحجر 94). أما قبل نزول هذه الآية فكانت الدعوة تمهيدية وانتقائية من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض الأشخاص فكانوا هؤلاء الثلاثة عليهم السلام. 2 ــ أن هذه الدعوة النبوية لهؤلاء كانت من محض علم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الذي: "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى" (النجم 3). 3 ــ لما سيترتب على هؤلاء الثلاثة من مهام عظيمة ومسؤوليات جسيمة في تأسيس الإسلام وقيام صرحه الشامخ. ولذا: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينتقي بعض الأشخاص فيدعوهم إلى هذا الدين وهم هؤلاء الأربعة؛ أي (علي وخديجة وأبو طالب وأبو ذر)، وهو في نفس الوقت كان خائفاً عليهم إلا أنه لم يكن متخفياً في شعاب مكة وبين جبالها وإنما كان بأبي وأمي يتعبد ويؤدي فرائضه أمام قريش؛ بل أمام كل من يأتي إلى مكة. وإلا بأيّ وجه يمكن لنا أن نفسر وجود المستهزئين به وهو يتستر ويخفي دينه؟. فهذه حقيقة واقع الدعوة خلال السنوات الثلاث من بعثة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
محرر الموقع : 2024 - 03 - 19