مراتب ألوجود و عوالمها : ألقسم آلثّانيّ
    
مراتب الوجود بآلنسبة لرؤية آلأنسان تتحدّد أفقها بحسب المعيار العقلي لكل سالك عارف عبر آية الآفاق التي ذكرها الباري تعالى في سورة (فصّلت/53) من القرآن , و هي عبارة عن مقدار المدى الكونيّ لأفق الناظر عبر العقل الكُلّي للسالك لإدراك مدينة السلام للخلود فيها.
 
يُعتبر فيثاغورس الفيلسوف ألوحيد و ألأوّل ألذي حدّد الفرق بين مرتبتين في الفكر الأنساني, بين مرتبة (الفيلسوف) و مرتبة (الحكيم) و لم يتوسّع في ذلك تفصيلا .. سوى أنهُ قام بتقديم ألحكيم على الفيلسوف درجة, على إعتبار ألأوّل(ألفيلسوف) يدرس و يبحث قبل ذلك و يُفَعّل ما أنتجه و كتبه (ألعارف ألحكيم) الذي نادراً جدّاً ما يتغيير تقريراته لأنّ العلوم الكونية, التي يدوّنها عادّةً ما تكون (لَدُنّيّة - غيّبيّة) - أيّ من الله تعالى بشكل مباشر أو غير مباشر, أي عن طريق الإشراق أو الرّؤيا أو ربما الوحي الملائكي و كما حصل مع الخضر و اليوشع والبسطامي وغيرهم, أو تكون العملية  حصوليّه تتحقّق عن طريق الكسب و السّعي و التعبد و الترويض و كبح جماح النفس و المواظبة على النوافل حتى يحصل الكشف و الشهود عنده و يصل العرفان أي كشف الحُجب عنده, و العامل المهم و المؤثر في تحقيق ذلك أيضا إلى جانب ما ذكرنا هي آلدّراسة و كسب التجربة و الملاحظة و آلتّفكر و التأمل العميقين, و نحن في (فلسفتنا آلكونيّة) فصّلنا مراتب المعرفة العقليّة بِبُعديه (الظاهري و الباطني), أو (العرضي و الجوهري) بحسب المراحل السبعة ألتالية ضمن تعريفات مُحدّدة و علميّة مبرهنة في بحث(فلسفة الفلسفة الكونيّة) أو ما سُميّ بـ (نظرية المعرفة الكونيّة)(1), والمراحل السبعة هي :
 
[قارئ - مثقف - كاتب - مفكر - فيلسوف - فيلسوف كوني - عارف حكيم].
 
هذا المسير الذي يقتضي زمناً طويلاً قد يكون لآخر العمر لبلوغ المنشود بعد شرط تحقّق الطلب أولاً ثمّ العشق في وجود السالك لعبور باقي المحطات الكونية .. التي مجموعها (سبعة مدن), أو مدن العشق السبعة والتي يجب عبورها بأمان و كما عبّر عنها العارف النّيشابوري من خلال قصّة رائعة موجودة في كتابه المعروف بكتاب العشق للعطار النيشابوري, و آخرين إختلفوا في تحديد عدد تلك المراحل, منهم كآلشيخ الأكبر (إبن عربي) لخصها في 26 مرتبة يجب عبورها لوصول مدينة السلام والسعادة(2) كآخر مرتبة, و كذلك الشيخ الأنصاري قسّمها إلى 52 مرتبة تيمّناً بعدد الركعات اليوميّة الواجبة و المستحبة, و هكذا العارف الحكيم محمد باقر الصدر حدّدها بإختصار بليغ بمرتبتيّن هما؛ [معرفة الله ثمّ حُبّه (عشقه)], و هناك مراتب مختلفة لعرفاء آخرين وردت في مراتب فلسفتنا الكونيّة.
 
و بوصول السالك المرحلة السابعة يتميّز و ينال صفة (العارف الحكيم)(3), و تعني بلوغه المعرفة الذاتية و الرؤية الكونيّة الشّهودية عن طريق آيات النفس بعد تطهيرها, و قد عرضنا في القسم الأوّل من هذا البحث المراتب الوجوديّة التي عبَّر عنها الباري بآلرّؤية الآفاقية - الوجودية و كما ورد في آلقرآن الكريم بقوله تعالى :
 
[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] (فصّلت/53).
 
فـ (آلقارئ) : هو آلذي يُريد و يُقرّر و يقرأ ما كتبه و يكتبهُ مختلف الكُتّاب و المفكريّن و الفلاسفة و العرفاء بمقدار إستيعابه لآفاق آلمراتب في الأفقين بعد هضم المفاهيم المطروحة والتي تتبلور عنده بمرور الزمن ليكون بسبب القراءة مثقّفاً لينال بعد عبور المراتب الكونيّة عارفاً قريباً من الله تعالى, أيّ يرتقي لمرتبة العارف الحكيم و هي ذكر مبارك من لدن حكيم خبير.
 
أمّا (آلمثقّف) : فهو الذي يقرأ ثمّ يصنّف و يُبوّب و يُؤرشف ثمّ يُدقّق في الكتابات و النّصوص و آلآراء و يضرب بعضها ببعض و ربما يميل لإختصاص أو إتجاه معيّن أكثر فيركّز عليه أكثر من غيره, و قد يحصل على درجة الدّكتوراه فيها ليمتهنها و يكون أستاذا في المدرسة أو الجامعة بحدود إختصاصه بحيث يمكنه ان يكتب و ينظر فيها فيما بعد, لكنه ليس بآلضرورة أن يكون مثقفاً كما ساد بين الناس, فهناك فرق كبير بين الممتهن لأختصاص علمي و بين المثقف السالك لله.
 
أما (الكاتب) : هو الذي يعتمد بكتابة مقاله أو موضوعه أو ربما كتاب معيّن في إختصاصه؛ على مطالعة مجموعة من البيانات و المصادر و المقالات و الأفكار و النصوص ذات العلاقة بآلنقطة أو آلموضوع المطروح الذي يريد تسليط الضوء عليه أو كشف موضوع جديد ليخرج بمقالة مُرتّبة و مقبوله كتقرير لتغيير الواقع نحو آلأفضل ..
 
و عادّة ما .. لا يذكر للأسف أغلبية الكُـتّاب, خصوصاً غير ألنُّزهاء منهم؛ المصادر التي يقتبسون منها أو يعتمدون عليها في مقالاتهم و تقريراتهم لظنهم آلخاطئ بأنّها ستُسجل بإسمهم و ترفع شأنهم, وأنّ ألقُرّاء لا يكشفون أمرهُ أو ما تمّ نقله من الآخرين أو المصادر الأخرى, بينما الحقيقة تظهر لا محال و لو بعد حين .. ناهيك عن إنّ المفكريين و الفلاسفة و الحكماء الذين يعرفون ذلك تفصيلاً لا تفوتهم مثل تلك السرقات و الألاعيب لأنهم أمناء على الفكر و ينظرون بنور الله!؟
 
على أيّ حال يُمكن للكُتّاب أن يكونوا جديرين و من طبقة المفكريين الأُمناء بنقل المعارف و كشف الأمور للناس بدقة و نزاهة و شفافيّة لتنويرهم بآلحقائق ألوجودية التي يصلوها.
 
أمّا (ألمُفكّر) : فهو آلذي يقوم بموازنة المقالات ألمعتبرة و تبويبها و تصنيفها إعتماداً على رؤى بعض الكُتّاب الأكاديميين المعروفين و العلماء ألذين يُوثق بهم و بنظرياتهم لكونهم يعتمدون الصّدق و النزاهة و التقوى و ذكر المصادر بكل أمانة و صدق في كتاباتهم لدراسة موضوع معيّن و بآلتالي الخروج برؤية جديدة مفيدة للعالم يُعتبر ضمن حيز الأبداع أو مُقدّمات الأبداع ليدخل مجال الفلسفة بشكل طبيعي ليؤسس مدنيّة سليمة وكاملة تحقق سعادة المجتمع ضمن البعدين الكونيين اللذين تمت الأشارة لهما.
 
أمّأ (ألفيلسوف) : فهو آلذي يدرس و يُقيّم الرؤى التي توصّل إليها المُنظّر - آلمُفكّر و يُقارنها و يُقييمها و يُمحّصها للوصول إلى تقنين رؤية جديدة و مُتقدمة عن ذلك يمكن إعتبارها مميّزة أحياناً بل و مبدعة, لتكون منهجاً و قانوناً و رؤية معتبرة و جديدة للباحثين و الأكاديميين في مختلف المجالات بحيث يتعيّين عليهم وضع كل الآفاق الأرضيّة - المادية و السماويّة - الرّوحية تقريباً في مجال و إطار فكره و تنظيراته.
 
أمّا (ألفيلسوف الكونيّ) : فهو آلذي يبدأ من النقطة التي إنتهى إليها الفلاسفة السابقين في تقريراتهم عبر التأريخ طبقاً لنظريّة معرفيّة إعتمدها كنهج ليتميّز بها عن الجميع, ثمّ دراسة و مقارنة النتائج الفيزيائية و الميتافيزيقية و النفسية و الرّوحية و الطبيعيّة مع آلأبعاد (الكَوانتونوميّة)(4) ليخرج بنظريات جديدة و مُبدعة في مجال المعرفة الكونيّة, و هؤلاء عادّة ما قلة قليلة جداً قد لا يبرز منهم في كلّ زمان و مكان وقرن سوى بعدد الأصابع, ليكون عارفاً بزمانه ومكانه و مستقبله بعد نيل الحكمة.
 
و أخيراً (ألعارف الحكيم) : و هو آلذي يربط النظريات(الكَوانتونومية) الكونيّة التي توصل لها الفلاسفة الكونيّيون لإنتاج نظريّة كونيّة جديدة ثابتة كآية قرآنية لكنها من قبل الأنبياء ألأرضيون, حيث تنتهي عندها مسالك المعرفة لتكون بمثابة القانون (الدّستور) الذي تَعتمده المؤسسات و النُّظم و العلماء و الفلاسفة كأساس لرسم و تحديد القوانين و المناهج والخطط الستراتيجيّة في الجانب الحضاري و المدنيّ لبناء و إحياء رسالة الأنسانيّة .. لكن لا كهذه الحضارة القائمة على العنف و القتل و الحرب و التسلط وآلفساد أو تلك "الحضارات" القديمة التي أستُعبِدَ فيها البشر؛ بل عبر النهج الكونيّ ليسود السلام و الأمن و العدالة بعد إنتقال الناس من (الحالة البشريّة) إلى (الحالة الأنسانيّة) ثم (الحالة آلآدميّة) أخيراً كأسمى و أعلى مرتبة وجوديّة لا يصلها إلّا المتواضع لله و الذي يكون للمخلوقات كأديم الأرض لا يُريد فيها علوّاً ولا مقاماً ولا فساداً, بل يكون أساساً للآخرين ليثمروا, وتلك درجة لا ينالها إلّا ذو حظٍّ عظيم.
 
و المرتبة(الحالة) الأخيرة .. تعني نيل الحِكمة التي بآلمناسبة لا تتحقّق بسهولة ولا تستقر إلا للواطئ كما الأمطار تستقر فقط في المنخفضات لا المرتفعات, و هكذا الحكمة بعد تناسبها و صيرورتها مع (العشق) الذي يستقر في النفوس المتواضعة المنخفضة لتحقيق الوحدة و البناء الحضاري و المدني - العمراني و التكنولوجي .. لأنّ العارف الحكيم يضع بآلحسبان, ثلاث مسائل أساسيّة في نظره لتحديد الحُكم و إصدار القرارات و المناهج بقوة التواضع و ألمحبّة الألاهيّة, و هي  :
 
معرفة ألجَّمال ؛ طلب ألعِلم ؛ عمل ألخير دون إنتظار الجزاء.
 
و بإجتماع تلك المناهج و إعمالها تتحقق سعادة الأنسان و المجتمع و الناس أجمع و بآلتالي يتحقق الخلود في الوجود.
و
أبداً لن يموت الذي أحيا قلبه بآلعشق ..
إنّهُ مؤكّدٌ خُلودنا في هذا آلوجـــــــود ..
 
ألعارف الحكيم عزيز حميد مجيد الخزرجي
يُتبع ...
محرر الموقع : 2024 - 04 - 16