السيد السيستاني في قراءة كمال وولي
    

استمعتُ إلى المفاهيم والآراء التي قالها السيّد كمال الحيدري من خلال لقائه بشخص قادم من لندن اسمه «إيهاب» كما قرأت كتاب «الانبعاث الشيعي» بقلم ولي نصر ابن السيّد حسين نصر وتعريب مختار الأسدي.

ليس ما استمعت إليه وقرأته يمثّلان ملاكاً وضابطاً وميزاناً بقدر ما أنّهما تصوّران ورؤيتان وجد صاحباهما الواقع والفهم يجريان على هذا المنوال.

لا شكّ أنّهما يختلفان وبينهما بون شاسع; إذ يعقد الحيدري رؤيته حول «المرجعيّة الدينيّة» على أنّها يجب أن تكون شاملة لكلّ قضايا الدين العَقَدية والأخلاقيّة والاجتماعيّة والشرعيّة والسياسيّة لا أنّها مجرّد مسائل الحلال والحرام.

إنّها رؤية وفهم قابل للبحث والنقاش والقبول والردّ، كما قال هو ذلك أيضاً، لكنّه في مجال تطبيق هذه الرؤية وبيان مصاديقها نجده يشنّ هجوماً قاسياً على المراجع العظام أمثال الشيخ الوحيد والشيخ ميرزا جواد والسيّد محمّد سعيد الحكيم والشيخ الفيّاض والسيّد السيستاني، ويصف الأخير بأنّه لا شيء عنده وأنّه مرجع في مسائل الحلال والحرام فقط وقد لعبت الدوائر الغربيّة والمخابرات دوراً في بروز مرجعيّته.

أمّا ولي نصر فعلى الرغم من كونه يروم الوقوف على مستقبل الصراع السنّي والشيعي، لكنّه في الحقيقة يعقد مقارنةً بين التأثير الشيعي الإيراني بعد انتصار الثورة الإسلاميّة على دول وشعوب المنطقة ، وبين التأثير الشيعي العراقي بعد سقوط نظام صدّام حسين وتسلّم الغالبيّة الشيعيّة مقاليد الحكم فيها، ويرى أنّ إيران بكلّ إمكانيّاتها وطاقاتها ونشاطاتها لم تستطع إيجاد التأثير المطلوب بقدر ما أوجده التأثير الشيعي العراقي، ويُرجِع الأمر إلى الدور المحوري الذي اضطلع به السيّد السيستاني وبمنهجه العقلاني الذي اضطرّ معه الأميركان إلى قبول رؤيته في الانتخابات وكتابة الدستور وغيرهما، مع رفضه الالتقاء بأيّ أحد من رجالاتهم.

كما تمكّن بهدوئه ومتانته من منع نشوب حرب أهليّة ناهيك عن إمكانيّة حدوث صراعات شيعيّة ـ شيعيّة. إنّه تمكّن بحكمته وعقلانيّته وحضاريّته أن يعطي بُعداً وضّاءً عن التشيّع ومحتواه السليم، الأمر الذي أوجد تأثيرات هامّة على صعيد العراق ودول المنطقة شعوباً وحكومات، فتهيّأت لشيعة دول المنطقة فرص التعبير عن مطالبهم بطرق حضاريّة سلميّة، وقد استجابت كثير من الحكومات لهذه المطالب.

لقد غدا وجود السيّد السيستاني عاملاً محوريّاً في تحقّق الأمان والاستقرار وتوقّف أعمال العنف والفتنة التي كادت تعصف بالعراق والمنطقة عموماً، كما صار نقطة قوّة الشيعة في الحصول على حقوقهم سواء داخل العراق أو خارجه.

والأهمّ في ذلك أنّ السيّد السيستاني باعتراف الكثيرين ـ حتى القادة الإيرانيّين ـ بات يمثّل التشيّع العقلاني، التشيّع الحواري الهادف إلى تحقيق مطالبه عبر الطرق والأساليب الحضاريّة السلميّة.

إنّ منهج السيستاني وعقلانيّته وما حقّقاه من نتائج ملموسة على الأرض هل هما رشح من رواشح مسائل الحرام والحلال؟! رغم أنّ مراجعنا العظام كانوا ولا زالوا يديرون شؤون العباد والبلاد، سعةً وضيقاً، لا أنّهم مراجع في مسائل الحلال والحرام فقط، مع كون هذه المسائل هي من أهمّ أركان الدين والشريعة والحياة ـ أم أنّها منهجيّة وفكر متكامل الرؤى والأساليب؟!

وهل يغيب عنّا البعد الأخلاقي في هذه المنهجيّة وهذا الفكر؟! ولاسيّما أنّ الرسول الأكرم قد قال: «إنّما بعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق» سواء جعلنا «إنّما» أداة حصر أو تأكيد. ثم في أيّ خانة نضع الجهود الكبيرة التي تضطلع بها مؤسّسات السيّد السيستاني في شتّى بقاع الأرض وعلى مختلف الأصعدة والمحاور التي لا يمكن حصرها هنا، إلى ذلك التأثيرات العَقَديّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي عمّت شعوب المنطقة وأعطت رؤية جدّيّة عن التشيّع تختلف تماماً عن الرؤية التي ترى فيه فكراً راديكاليّاً عدائيّاً. فهل كلّ ذلك من رواشح مسائل الحلال والحرام فقط؟! أم هي عبارة عن نسق ومناهج ومعرفة تستوعب شتّى جوانب الدين والحياة ولا تقتصر على جانب دون آخر؟!

إلى ذلك: فإنّ الدين هو المعاملة، أي الممارسة الصحيحة للقيم والمبادئ الحقّة، لا الكبر والغرور والادّعاءات التصوريّة والثبوتيّة، هذا إن ثبت كونها تصوّريّة وثبوتيّة.

 من كتاب نفحات الذات للكاتب كريم الأنصاري

محرر الموقع : 2020 - 05 - 29