فشل مجلس النواب العراقي في ميدان التشريع الجنائي
    

د. علاء إبراهيم الحسيني/مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات

 

  لقد تطور التشريع العراقي منذ استقلال العراق وتشكيل الدولة العراقية في عشرينيات القرن الماضي على مختلف الأصعدة، وشهد القانون الجنائي العراقي تطوراً ملحوظاً بعد إقرار قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المعدل الذي ألغى قانون العقوبات البغدادي ذو الأصول العثمانية، واستمد القانون الجديد أغلب أفكاره ونظرياته من القوانين الحديثة لاسيما الأوربية والعربية محتفظاً في الوقت عينه ببعض الخصوصية للمجتمع العراقي، فأفرد أحكاماً جزائية للمرأة لاسيما تلك الأحكام المتعلقة بالأسرة وما سواها، ثم أعقب ذلك صدور قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي رقم (23) لسنة 1971 المعدل والذي يعد الشريعة العامة للقواعد الإجرائية التي تتبعها المحاكم العراقية عند نظر الدعاوى المتعلقة بالجرائم المختلفة، ونظم فيه المشرع الدعوى الجزائية والمدنية المتعلقة بالحق الخاص بشكل دقيق ومحكم في أغلب أجزائه، وأكمل القانونين السابق ذكرهما جملة من القوانين المتعلقة بمسائل مختلفة ذات طابع جزائي أو تتضمن قواعد جزائية منها على سبيل المثال لا الحصر قانون الكمارك رقم (23) لسنة 1984 وقانون مكافحة الإرهاب رقم (13) لسنة 2005 وقانون مكافأة المخبرين رقم (33) لسنة 2008 وقانون الأسلحة رقم (51) لسنة 2017 وقانون حماية الشهود والخبراء والمخبرين والمجني عليهم رقم (58) لسنة 2017 وغيرها كثير جدا، بيد أن الملاحظ إن المشرع العراقي وبالخصوص بعد نفاذ دستور العراق لعام 2005 أخذ بسياسة تشريعية تعوزها الدقة والموضوعية والشمول في فهم المشاكل التي يتصدى لها بالتنظيم وتقرير الحماية، وقد سجلنا بعض الملاحظات تأييداً لما تقدم نعرض لها وفق الآتي:

1- لم يتمكن البرلمان العراقي وعلى مدار ثلاثة عشر سنة من تفعيل نصوص الدستور التي علقت على صدور قوانين الأمر الذي انعكس سلباً على حقوق المواطنين وحرياتهم ولنا أمثلة عديدة منها ما ورد بالمادة (18) التي ألزمت من يتولى منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً بالتنازل عن جنسيته غير العراقية على أن ينظم هذا الأمر بقانون، وما حصل إن البرلمان فشل في سن القانون ما تسبب بتفشي الفساد الإداري والمالي بشكل مخيف نتيجة إن المسؤولين جلهم يملكون جنسيات دول أخرى يهربوا إليها بعد انتهاء مدة ولايتهم.

2- لم يتمكن المجلس النيابي العراقي اعتماد سياسة إصلاح العقوبات الواردة في قانون العقوبات بالاتجاه نحو الأفكار الجديدة لاسيما الاجتماعية منها والاستفادة من الأبحاث الحديثة في علم الإجرام والتي توصي بالانتقال نحو العقوبات الذكية والاجتماعية والمالية بدل تلك العقوبات البدنية التي تؤذي الشعور الإنساني وتتسبب بالغالب بتفكك أسري نتيجة سجن الجاني أو إيقاع عقوبة مغلظة عليه تجعل المجتمع ينظر إليه بنحو من السلبية ما يتسبب في إفساده أكثر من إصلاحه، كما نذكر بضرورة الأخذ بنظر الاعتبار إن العقوبات المالية لن تحرم الجاني من القيام بواجباته تجاه أسرته ومجتمعه، وعلى أقل تقدير يمكن اعتماد ما تقدم بالنسبة للجرائم البسيطة تمهيداً للانتقال نحو العقوبات البديلة.

3- تطورت التشريعات الجزائية العراقية كما ونوعاً مما أسهم في تعدد القواعد القانونية بشكل كبير جداً وبالغالب حرص المشرع على تحديث هذه القواعد وتنويعها لاستيعاب التطورات الماثلة في الحياة العامة ومعالجة الأفعال الجرمية المحدثة، بيد ان المشرع فشل في اقرار قواعد قانونية تحمي المصالح المعتبرة لأفراد الشعب العراقي وعلى سبيل المثال عجز المشرع عن إقرار قانون ينظم حالة الطوارئ في البلاد لاستبدال الأمر رقم (1) لسنة 2004 الخاص بالدفاع عن السلامة الوطنية إذ واجه البلد أشد وأخطر الظروف بعد الهجمات الإرهابية العام 2014 بيد إن البرلمان لم يتمكن من إعلان حالة الطوارئ لمجابهة المخاطر الجرمية الجمة.

4- اتجاه المشرع العراقي إلى التأسي بالتجارب العالمية ومحاولة تقليد بعضها في تجريم بعض السلوكيات الفردية وغض الطرف عن أفعال جرمية أخرى لا تقل خطورة عما تم معالجته بالفعل ولنا أن نمثل لذلك بالعديد من الأمثلة التطبيقية فعلى سبيل المثال لم يجرم المشرع العراقي الزنا في قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969، إن وقع من البالغين وبرضا دون اكراه ما يتنافى مع الشريعة الإسلامية التي هي مصدر أساس للتشريع في العراق والدستور يمنع سن قانون يتعارض مع ثوابتها.

5- لا يزال القاضي الجزائي العراقي وهو ينظر بالدعاوى المعروضة عليه مكبلاً بضرورة الركون إلى قواعد قانون العقوبات وأصول المحاكمات وحين ينتهي من نظر الدعوى ويصدر الحكم فيها بالإعدام لعتاة الإرهابيين يفاجأ الجميع بالمماطلة في التنفيذ من قبل أركان السلطة التنفيذية الأمر الذي يذهب قوة الردع للأحكام الجزائية والسبب البرلمان نفسه الذي فشل في إقرار قوانين تنظم عمل السلطة التنفيذية وفي حال مخالفة مهامها الدستورية تبين إجراءات مساءلة أفرادها.

6- ألقت المعاهدات الدولية على العراق عبء إصدار كم كبير من القواعد القانونية ومنها على سبيل المثال لما صادق العراق على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2004 والتي صادق عليها العراق بالقانون رقم (35) لسنة 2007 فكان من نتائج ذلك إصدار قانون هيأة النزاهة رقم (30) لسنة 2011 وقانون حماية الشهود رقم (58) لسنة 2017، ويذكر إن الهيئة أنشأت بقرار من سلطة الائتلاف المؤقتة المنحلة بالأمر رقم (55) لسنة 2004 بيد إن المشرع العراقي اضطر إلى توسيعها عضوياً وهيكلياً في العام 2011، ما ألقى على السلطات العامة عبء صرف نفقات إضافية غير ضرورية في الحقيقة لكونها تضم عدد كبير من الدرجات الخاصة والعليا (المدراء العامون) وكم هائل من الموظفين والمحققين في الوقت الذي كان المشرع مدعو إلى توسيع سلطة المحققين العدليين التابعين لمجلس القضاء الأعلى بتخصيص بعض منهم لمتابعة جرائم الفساد وبذا نضمن الاستقلالية والحياد التام عن السلطة التنفيذية، فكل ما سببته الاتفاقية هو تنويع في الأجهزة الرقابية دون أن تحقق فاعلية حقيقية.

7- اتسمت السياسية التشريعية العراقية بالتشتت والتشظي مما جعل المختصين أمام حيرة تجاه أي القوانين والقواعد ساري المفعول وايها الغي وعلى سبيل المثال أصدر البرلمان العراقي قانون مكافحة تهريب النفط ومشتقاته رقم (41) لسنة 2008 في الوقت الذي نظم قانون الكمارك هذا الموضوع بدقة متناهية ووضع عقوبات صارمة أفضل بكثير مما وضع في القانون أعلاه فكان مجلس النواب مطالباً بتحري الدقة والموضوعية والقراءة الفاحصة للقوانين النافذة فليس العلاج دائماً بإصدار القوانين بل بتفعيل النافذ منها وتطبيقه بفاعلية.

8- اتسمت القوانين لاسيما الحديثة الصادرة عن مجلس النواب بغياب المنهج التشريعي الواضح وتخلف التوحيد في المصطلحات القانونية، فعلى سبيل المثال صدر القانون رقم (78) لسنة 2017 المؤسس للهيئة العراقية للاعتماد والقانون أسس لهيئة جديدة لاعتماد الشركات والمناشئ متناسياً دور جهاز التقييس والسيطرة النوعية ووضع عقوبات تصل للحبس في المادة (11) من القانون المذكور وكان الأولى أن يناط ذلك بالجهاز المركزي للتقييس كون ذلك أجدى في توفير النفقات ولا يسهم في تعدد الجهات وإنشاء الهيئات التي تكلف الموازنة أموالاً.

9- اتسمت التشريعات بمنهج بعيد عن حقوق الإنسان وتوفير الضمانات الحقيقية الكفيلة بتطبيق القانون أو بجعل القانون إنساني بالدرجة الأساس، وعلى سبيل المثال في العام المنصرم 2017 اصدر المشرع العديد من القوانين ذات الطابع الجزائي كقانون الأسلحة رقم (51) وقانون الإقامة رقم (76) فلم تتضمن عقوبات بديلة عن السجن أو الحبس تتلاءم مع حقوق الفرد الإنسانية والأسرية.

10- الفشل في صياغة القوانين بشكل احترافي ما أدى إلى إفراغ العديد من القوانين من محتواها فقد اتسمت بعض التشريعات بالنقص أو الغموض ما سبب تعطيلها ومنها على سبيل المثال قانون حماية الأطباء رقم (26) لسنة 2013 الذي من المفترض أن يوفر حماية للطبيب من المطالبات العشائرية بيد إن القانون معطل التطبيق في الكثير من الأحيان والابتزاز للطبيب لا يزال شاخصاً في أغلب المحافظات.

11- لا تزال التدابير الاحترازية الواردة في قانون العقوبات العراقي في أغلبها معطلة لأسباب فنية وأخرى قضائية فلا بد من إعادة النظر فيها بالتعديل بما يتفق مع طبيعة وتطور المجتمع العراقي ومع التغيير الكبير في الجرائم التي بات يرتكب القسم الأكبر منها في العالم الافتراضي على مواقع الانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي في حين لا توجد تدابير ملائمة لمثل هذه الجرائم أو لإصلاح مثل هكذا جناة لاسيما وان العدد الأكبر منهم من الأحداث فلا بد من التفكير بطريقة ممكن من خلالها إصلاح هؤلاء وإعادة تأهيلهم وإرجاعهم للمجتمع أفراداً عاديين والسبب يعود للبرلمان أيضاً لكونه فشل في إقرار قانون المعلوماتية.

12- تأخر البرلمان العراقي كثيراً في إقرار بعض القوانين التي تحاسب كبار المسؤولين ومنهم على سبيل المثال رئيس الجمهورية حيث يمكن أن يرتكب جرائم غاية في الخطورة حسب ما ورد في المادة (61/ البند سادساً/ب) ومنها جريمة الخيانة العظمى والحنث باليمين الدستوري وانتهاك الدستور، ومما يذكر بهذا الخصوص إن رئيس الجمهورية الحالي اتهم من قبل بعض النواب في البرلمان أبان المشكلة على استفتاء إقليم كردستان ومضى البعض بالمطالبة بإعفائه من منصبه وما كان من بعضهم إلا إن إقامة الدعوى أمام المحكمة مدعياً انتهاك الرئيس للدستور العراقي، بيد إن المحكمة الاتحادية ردت الدعوى وعللت ذلك بـ(أن النظر في الاتهامات الموجهة لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء وفق المادة 93/سادساً يجب أن ينظم بقانون – ينظم أدانته أي منهم بإحدى الجرائم السابق ذكرها بعد الاتهام من قبل الأغلبية المطلقة لعدد أعضاء مجلس النواب- ما يعني انه يستلزم حتى ينعقد الاختصاص للمحكمة الاتحادية العليا بالفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية في الأمور التي ورد ذكرها في المادة (61/سادساً/ب) أن يصدر قانون من مجلس النواب ينظم كيفية الفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية وما دام هذا القانون لم يصدر بعد لغاية إقامة هذه الدعوى فان النظر فيها يخرج عن اختصاص المحكمة الاتحادية العليا).

 ولنا على هذا الحكم العديد من الملاحظات أولها فشل مجلس النواب بعد ثلاثة عشر سنة على نفاذ الدستور من سن قانون ينظم مساءلة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء رغم ما مررنا به من إشكاليات كادت تطيح بوحدة الدولة، وما نسب للبعض منهم من ارتكاب مخالفات دستورية وجنائية ترقى إلى جرائم انتهاك الدستور، ومن جانب آخر لم تكن المحكمة موفقة في قولها إن الاختصاص لا ينعقد لها إلا مع صدور قانون ينظم مساءلة رئيس الجمهورية وفق المادة أعلاه، والسؤال الذي نقدمه للمحكمة هل صدر قانون المحكمة أصلاً وفق ما رسمت المادة (92) من الدستور حتى تنتظر المحكمة إصدار قانون ينظم اختصاصها بإدانة رئيس الجمهورية ؟

 ومن جانب آخر إن تأخر مجلس النواب في إقرار مثل هذا القانون المهم تعطيل فعلي للدستور كان الأولى بالمحكمة أن تنظر الدعوى ولا تنصر وتؤيد موقف مجلس النواب المخزي الذي عطل جل مواد الدستور بسبب المناكفات الحزبية والسياسية والمصالح الذاتية والتغطية على الفساد الذي ارتكبه جل هؤلاء.

محرر الموقع : 2018 - 06 - 24