المرجعية الدينية وإستفتاءات ... أسئلة بشأن رؤية الهلال
    

 

 

 

أجاب سماحة المرجع الديني الاعلى آية الله العظمى السيد السيستان  “دام ظله” على استفتاءات بشأن  رؤية الهلال

 

السؤال: يفتي معظم الفقهاء بأنّه: (لا عبرة برؤية الهلال بالعين المسلّحة سواء بالنسبة إلى الرائي وغيره)، ويسأل البعض عن وجه هذه الفتوى مع أنّ الرؤية المذكورة في النصوص ـ صُمْ للرؤية وأفطِر للرؤية ـ تعمّ بإطلاقها الرؤية بالعين المجرّدة والعين المسلّحة، ومجرّد عدم كون الرؤية بالعين المسلّحة متيسّرة في عصر المعصومين (عليهم السلام) لا يمنع من شمول الإطلاق لها، فأيّ وجهٍ لعدم الاعتماد على الأجهزة الحديثة في رؤية الهلال مع أنّه تتمّ الاستعانة بها في تشخيص سائر الموضوعات الشرعية؟

الجواب: هذا بحث تخصّصي وليس متاحاً في بعض جوانبه إلّا لأهل الاختصاص، ولكن نذكر ما ربما يسع استيعابه لغيرهم أيضاً.
فنقول: إنّ القرآن الكريم قد دلّ على أنّ أهلّة الشهور إنّما جعلت مواقيت يعتمد عليها الناس في أمور دينهم ودنياهم، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) وما يصلح أن يكون ميقاتاً لعامّة الناس هو الهلال الذي يظهر على الأفق المحلّي بنحو قابل للرؤية بالعين المجرّدة، وأمّا ما لا يرى إلّا بالأدوات المقرّبة فهو لا يصلح أن يكون ميقاتاً للناس عامّةً.
وبعبارة أخرى: حكم الهلال في الليلة الأولى والليالي اللاحقة من الشهر حكم عقارب الساعة، فكما أنّ عقاربها تحكي بحركتها الدوريّة عن أوقات الليل والنهار كذلك القمر بأوضاعه المختلفة ـ حيث يزداد جزؤه المضيء ليلة بعد أخرى ثمّ يبدأ بالتناقص حتّى يدخل في المحاق ـ تحكي عن عدد الليالي في الشهر القمري، ومعنى جعل الأهلّة مواقيت للناس هو أنّ ظهورها بمراحلها المختلفة بمثابة عدّاد سماوي مشهود لعامّة الناس يمكنهم الرجوع إليه لمعرفة أيّام الشهر القمري لتنظيم شؤون دينهم ودنياهم، وهذا يقتضي أن تكون العبرة في رؤيته بما يتيسّر التأكّد منه لعامّة الناس لا لخصوص من يمتلك جهازاً صناعيّاً يكشف عن وجود الهلال في الأفق في الوقت الذي لا يتيسّر التحقّق من ذلك لغيره، فإنّ هذا لا ينسجم مع كون الأهلّة مواقيت للناس عامّة.
ومن هنا يُعلم أنّ عدم الأخذ بالرؤية بالتلسكوب ونحوه في إثبات الهلال ليس من جهة الإحجام عن الاستعانة بالأجهزة الحديثة في تشخيص موضوع الحكم الشرعي، بل من جهة أنّ ما جُعل موضوعاً له إنّما هو من قبيل ما يعتبر أن يكون قابلاً للتحقّق من وجوده لعامّة الناس ممّن يملك عيناً سليمة حتّى أهل الأرياف وسكنة البراري والجبال ممّن لا طريق لهم للتحقّق من ظهور الهلال في الأفق إلّا أعينهم.
ونظير المقام ـ من وجهٍ ـ أنّ من موجبات الجنابة هو خروج السائل المنوي من الرجل، وعندما تجرى له عملية استئصال غدّة البروستات يؤدّي ذلك عند المقاربة ـ كما يقول أهل الاختصاص ـ إلى رجوع المني إلى المثانة وخروجه مستهلكاً في البول، فإذا أخذت عيّنة من بوله واكتشف في المختبر بالمجهر اشتمالها على بعض الحيوانات المنويّة لم يحكم على صاحبها بوجوب الغُسل، لأنّ ما يوجبه هو خروج المني وهو ما لم يحصل، وأمّا إحراز وجود حيوانات منويّة فيما يخرج من البول بالأجهزة الحديثة فهو ممّا لا أثر له، لعدم تحقّق موضوع وجوب الغُسل بذلك.
ونظيره أيضاً ما إذا خرج من وطنه وابتعد عنه بحيث لا يراه من يسكن فيه إلّا بالمنظار ونحوه، أو لا يسمع هو صوت الأذان المرفوع فيه إلّا ببعض الآلات المعدّة لالتقاط الأصوات من الأمكنة البعيدة، فإنّه لا يتأخّر وصوله إلى حدّ الترخّص بهذا المقدار بل يصل إليه إذا لم يكن يراه أهل بلده بالعين المجرّدة ــ وعلى رأيٍ إذا لم يكن يسمع الأذان المرفوع فيه بأذُنه المتعارفة ــ لأنّ ما هو موضوع الحكم بوجوب التقصير في الصلاة والترخيص في الإفطار في شهر رمضان هو الابتعاد عن الوطن بهذا المقدار وليس عدم الرؤية أو عدم السماع بعنوانهما.
وهكذا أيضاً ما إذا نظّف السمكة ممّا فيها من الدم ــ وهو ما يحرم أكله وإن كان طاهراً ــ ولكن لاحظ بالمجهر بقاء جزيئات صغيرة جدّاً من الدم فيها بحيث لا ترى بالعين المجرّدة، فإنّه لا يضرّ ذلك بجواز أكلها، لأنّ موضوع حرمة الأكل هو ما يعدّ دماً بالنظر العرفي، وتلك الجزيئات لا تعدّ كذلك.
فهذه الموارد تختلف عن موارد أخرى يمكن أن يكون للأجهزة الحديثة دور في تحقّق موضوع الحكم الشرعي أو إحراز تحقّقه، ومن أمثلته:
١ـ ما إذا شكّ في وقوع شيء من النجاسة في كأس من الماء، فنظر بعينه المجرّدة فلم يجد شيئاً ثمّ نظر بالمجهر فوجد فيه ذرّة من النجاسة لا تُرى بالعين المجرّدة، فإنّه يحكم فيه بتنجّس الماء، لأنّ موضوع الحكم بالتنجّس هو الملاقاة مع النجاسة ولو بمقدار ذرّة منها وقد أمكن إحرازها ولو بالمجهر.
٢ـ ما إذا نظر إلى ما يحرم النظر إليه ــ كبدن غير المحارم من النساء ــ بالمنظار أو نحوه، فإنّه يحكم بكونه آثماً، لأنّ موضوع الحرمة هو النظر وقد تحقّق ولو بالآلة.
٣ـ ما إذا تجسّس على الغير بآلات التنصّت الحديثة، فإنّه يكون مرتكباً للحرام، لصدق التجسّس الذي هو موضوع الحكم بالحرمة ولا خصوصية للتنصّت بلا واسطة.
٤ـ ما إذا مات زوج الحامل وأريد تقسيم تركته على سائر الورثة بعد عزل مقدار نصيب الحمل، فإن استعين بالسونار ــ مثلاً ــ للتعرّف على حاله من أنّه واحد أو متعدّد ذكر أو أنثى أخذ بمقتضاه، لأنّ موضوع الحكم بوجوب عزل مقدار نصيب الحمل من تركة المتوفّى قبل تقسيمها هو ما يحتمل أن يكون عليه من الوحدة والتعدّد والذكورة والأنوثة، فإن تيسّر تشخيص ذلك بالأجهزة الحديثة لزم العمل بذلك.
٥ـ ما إذا شُكّ في مولود أنّه ابن فلان أو لا، فأجري عليه فحص الحمض النووي (DNA) فكشف عن التطابق بينهما في الجينات الوراثية، فإنّه يؤخذ بمقتضاه، لأنّ موضوع الحكم ببنوّة المولود لرجلٍ هو تكوّنه من حيمنه، وهو ما أمكن إحرازه بالفحص المذكور حسب الفرض، فتترتب عليه أحكامها.
والحاصل: إنّ التفريق بين الموارد بإمكان الاستعانة في بعضها بالأجهزة الحديثة للرؤية أو الاستماع أو نحوها وعدم العبرة بها في البعض الآخر إنّما هو من حيث اختلاف الموارد فيما هو موضوع الحكم الشرعي، وليس للفقيه إلّا التقيّد بذلك حسب ما يستفيده من الأدلّة.
وفي مورد الهلال استفاد معظم الفقهاء من جعل الأهلّة مواقيت للناس ــ كما نصّت عليه الآية المباركة ــ أنّها مقياس زمني يتاح لعامّة الناس الرجوع إليه وتنظيم أمورهم المعيشية والدينية بذلك، لا أنّه مقياس لا يتسنّى إلّا للبعض منهم خاصّةً بحيث لا يستفيد منه الآخرون إلّا بالرجوع إلى ذلك البعض الذي يملك الآلة المقرّبة لرؤية الهلال.
وبذلك يُعرف أنّه لو كان العلماء قد توصّلوا إلى صنع التلسكوبات في عصر المعصومين لما كانوا (عليهم السلام) يأخذون برؤية الهلال بها، ليس استنكافاً عن الاستعانة بالأجهزة الحديثة، بل لأنّ الهلال الذي لا يكون ظاهراً لعامّة الناس لم يجعل ميقاتاً لهم.
وبهذه القرينة يتعيّن أن تكون الرؤية المذكورة في نصوص الصيام والإفطار طريقاً إلى ظهور الهلال في الأفق المحلّي بحيث يكون قابلاً للرؤية بالعين المجرّدة لعامّة الناس، ولا إطلاق لها لتشمل الرؤية بالأدوات المقرّبة.
مضافاً إلى أنّه لو بني على كون المناط في دخول الشهر بظهور الهلال في الأفق بنحو قابل للرؤية ولو بأقوى التلسكوبات والأدوات المقرّبة لاقتضى ذلك أنّ صيام النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) وفطرهم وحجّهم وسائر أعمالهم التي لها أيّام خاصّة من الشهور لم تكن تقع في كثير من الحالات في أيّامها الحقيقية، لوضوح أنّهم (عليهم السلام) كانوا يعتمدون على الرؤية المتعارفة في تعيين بدايات الأشهر الهلالية، مع أنّهم ــ وكذلك كثير من أهل النباهة في عصرهم ــ كانوا على علمٍ بأنّه قلّما يُرى الهلال بالعين المجرّدة واضحاً ومرتفعاً في ليلة إلّا ويكون في الليلة السابقة عليها قابلاً للرؤية بأداة مقرّبة قويّة لو كانت متوفّرة، فلماذا لم يعهد منهم ولا من غيرهم التعويل على ذلك في عدّ الهلال لليلتين عندما يرى لأوّل مرّة واضحاً ومرتفعاً؟!
 
٢السؤال: إنّ ما ذكر ــ من أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) كانوا يعتمدون على الرؤية المتعارفة في تعيين بدايات الأشهر الهلالية مع أنّهم كانوا على علمٍ بأنّ الهلال إذا رُئي بالعين المجرّدة واضحاً ومرتفعاً في ليلة يكون في الليلة السابقة عليها قابلاً للرؤية بأداة مقرّبة قويّة لو كانت متوفّرة ــ وإن كان صحيحاً ولكن لعلّ السبب فيه هو أنّهم (عليهم السلام) كانوا مأمورين بمتابعة الطرق الظاهرية والعمل بما تقتضيه دون العمل بما يعلمونه من واقع الحال، ولذلك ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (إنّما أقضي بينكم بالأيمان والبيّنات) وكان الأئمة (عليهم السلام) يتعاملون في النسب بما تقتضيه قاعدة الفراش وإن علموا مخالفتها للواقع في بعض الموارد، وأيضاً كانوا يصومون في يوم الشكّ في آخر رمضان إذا كان في السماء غيم أو نحوه ولا يعملون بما يعلمونه من وجود الهلال خلف الغيم، فلماذا لا يكون المقام من هذا القبيل؟
الجواب: يجب التفريق بين العلم بالواقع الذي لا سبيل إلى الوصول إليه إلّا بإفاضة غيبيّة وبين الذي يمكن الوصول إليه بمحاسبة رياضية أو بالتنبّه إلى أمارة خارجية.
والمقام من قبيل الثاني، فإنّه إذا كان الهلال عندما يشاهد لأوّل مرّة واضحاً ومرتفعاً جدّاً فإنّ العلم بكونه في الليلة الماضية موجوداً في الأفق بحيث لو كان هناك تلسكوب ــ مثلاً ــ لأمكن رؤيته من خلاله لا يحتاج إلى علم الغيب، بل إلى مجرّد الالتفات بأنّه كلّما كان حجم الهلال وارتفاعه أكبر دلّ على أنّه ولد منذ وقتٍ أطول ممّا يعني ــ في مفروض الكلام ــ أنّه كان موجوداً في الأفق في الليلة الماضية، أقصى الأمر أنّه لضآلة حجمه أو لقلّة ارتفاعه عند الغروب لم يمكن مشاهدته بالعين المجرّدة، ولو كانت العين مسلّحةً بالتلسكوب لأمكن مشاهدته يقيناً، وليس هذا من العلم المختص بالمعصوم (عليه السلام)، بل هو ــ كما ذكر في جواب السؤال السابق ــ ممّا كان يحصل حتّى للنابهين في عصرهم.
وبذلك يظهر الفرق بينه وبين علم المعصوم (عليه السلام) بالواقع في الأمثلة المذكورة حيث لا يحصل له إلّا بإفاضة غيبية، أي: العلم بكون الحقّ لغير من له البيّنة الشرعية من المتخاصمين، أو كون الولد لغير من ولد على فراشه، أو كون الهلال موجوداً بنحو قابل للرؤية بالعين المجرّدة لو لم يحجبه الغيم، وفي هذه الموارد لو كان يحصل لهم العلم من الأمارات المتعارفة والشواهد الخارجية ــ كما يحصل لغيرهم إذا التفت إليها ــ لعملوا بمقتضاه.
 
٣السؤال: قد يقال: إنّ في زمن النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) كانت قوّة البصر أقوى بمراحل من هذا الزمن وكان صفاء السماء وقلّة التلوّث يسمحان بالرؤية بالعين المجرّدة، أمّا في زماننا هذا فليس الأمر كذلك، فلماذا لا يتمّ البناء على كفاية الرؤية بالأدوات المقرّبة؟
الجواب: لا دليل على أنّ العيون كانت فيما مضى أقوى بمراحل، بل في زماننا هذا يمكن استخدام النظارة الطبية لمن يعاني من قصر النظر حيث لا يرى الأشياء البعيدة بوضوح، ولم يكن هذا متاحاً في الأزمنة السابقة.
وأمّا التلوّث البيئي فيختلف مستواه من منطقة إلى أخرى، فإذا تأكّد المكلّف في مكان معيّن أنّ المانع من رؤية الهلال بالعين المجرّدة الاعتيادية هو وجود الملوّثات الجوّية في ذلك المكان فلا بأس بالبناء على دخول الشهر الجديد فيه، وأمّا جعل ذلك ذريعةً للاعتماد على التلسكوب والمناظير بصورة عامّة ــ وهي التي تفوق إمكانيتها لرؤية الأشياء البعيدة عشرات المرّات ما يتسبّب فيه التلوّث الجوّي من حاجب عن الرؤية البصرية غير المسلّحة ــ فهو ممّا لا مجال له.
 
٤السؤال: الدين الإسلامي دين متجدّد صالح لكلّ الأزمان، والاعتماد على الرؤية بالعين المجرّدة كان يصلح لزمنٍ لا تتوفّر فيه الأدوات المقرّبة، فلماذا لا يفتى بالاعتماد عليها في هذا الزمان؟
الجواب: نعم، الدين الإسلامي الحنيف يصلح لكلّ زمان، ولكن من قال أنّ الاعتماد على الرؤية المحلّية بالعين المجرّدة لا يصلح لهذا الزمان؟ بل لو كان أهل كلّ منطقة يعتمدون على الرؤية غير المسلّحة فيها فيفطروا إن شاهدوا هلال شوال ويصوموا إن لم يشاهدوه لما حدث هذا الاختلاف والإرباك الذي نشهده في كثير من السنين.
هذا، بالإضافة إلى أنّ الفقيه ليس مشرّعاً، ولا يحقّ له أن يضيف على الأحكام الشرعية شيئاً لا يقوم عليه الدليل من الكتاب والسنّة ــ حسب ما يستفيده منهما ــ بزعم أنّه ممّا يلائم هذا العصر.
 
٥السؤال: إنّ الآية الكريمة: (يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للناس) لا تدلّ على حصر ما يعرف به دخول الشهر الجديد في الهلال ـ إن سلّم كون المراد به خصوص ما يكون قابلة للرؤية بالعين المجرّدة ـ وعلى ذلك فأيّ مانع من أن يكون الهلال المرئي بالتلسكوب أيضاً ممّا جُعل مؤشّراً إلى بدء الشهر الجديد؟
الجواب: إنّ الآية الكريمة وإن لم تدلّ على حصر المواقيت في الأهلّة ولكن بعد فرض أنّ المراد بالهلال الذي هو مؤشّر إلى حلول أوّل الشهر خصوص ما يكون قابلاً للرؤية بالعين المجرّدة لا يمكن أن يجعل في الوقت نفسه الهلال المرئي بالتلسكوب مؤشّراً إلى ذلك، لحصول التضارب بينهما في تحديد أوّل الشهر.
وببيان آخر: يجوز أن يكون عدّاد الوقت متنوّعاً ولكن لا بدّ من أن تشير الجميع إلى وقت واحد ــ كما في الساعة الميكانيكية والإلكترونية ــ ولا يجوز أن تختلف في ذلك، ومن هنا لا يجوز الجمع بين كون الهلال القابل للرؤية بالعين المجرّدة والهلال الذي يرى بالأجهزة المقرّبة فقط مؤشّراً إلى دخول أوّل الشهر، وإذ دلّت الآية الكريمة على الأوّل فلا مجال للالتزام بالثاني.
 
٦السؤال: اختلفت الآراء في إثبات الهلال من عدمه وتمّت النيّة على إتمام الشهر الفضيل لعام ١٤٤١هـ، وفي وقتٍ لاحق وبعد صلاة الفجر وصلت بعض الأنباء التصحيحيّة من بعض المشايخ الثقات في مدينة القطيف على أنّه عيد بناءً على ما أثبته بعض المراجع الكرام، وبناءً عليه أفطر جمع كثير من أتباع السيد حفظه الله، بالرغم من ذلك بقي على إتمام الصيام جمع آخر وزاد اللغط بينهم. ما رأي سماحة السيد في هذه المسألة؟ وهل يكفي ثبوت الهلال عند مرجع آخر؟ وماذا يترتب عليه؟
الجواب: من أفطر من مقلّدي سماحة السيد (دام ظله) في يوم الأحد ثقةً ببعض المشايخ ثمّ تبيّن أنّه اعتمد على ثبوت الهلال عند من يكتفي برؤيته في غير المنطقة من المراجع الأعلام (أيّدهم الله) فعليه القضاء، وكذلك يجب القضاء على من أفطر أخذاً بعدد من شهادات الرؤية في المنطقة ثمّ تبيّن أنّها لم تكن جديرة بالاعتماد لمعارضتها الحكميّة بشهادات مَن استهلّوا ولم يروا الهلال ولا سيّما أنّه كان فيهم عدد من أهل الاختصاص مع استعانتهم بالأدوات المقرّبة.
ولا بدّ للمؤمنين (وفّقهم الله تعالى لمراضيه) من أن لا يبادروا إلى الإفطار عند إعلان العيد في المنطقة قبل أن يتأكدوا أنّه وفق المبنى الفقهي لمرجعهم في التقليد لئلّا يقعوا في خلاف ما تقتضيه وظيفتهم الشرعية.
كما نوصيهم بالابتعاد عن إثارة الفرقة والدخول في المهاترات الكلاميّة بسبب الاختلاف في أمر الهلال، بل ليعمل كلّ بوظيفته الشرعية وليحمل فعل الآخرين على الصحّة.
 
٧السؤال: ذكر سيدنا (دام ظله) أنّ الهلال لا يثبت بإخبار الفلكيين، مع أنّ علم الفلك يقوم على أسس علميّة متينة وحسابات رياضية دقيقة، ونسبة احتمال الخطأ فيها لا تكاد تذكر، ولا يزال الفلكيون يعدّون جداول شروق الشمس والقمر وسائر الكواكب السيّارة المعروفة في المجموعة الشمسيّة، ويلاحظ أنّها في نهاية الدقّة بحيث لم تتخلّف عن الواقع ــ وعلى الأقل خلال هذا القرن ــ ولا مرّة واحدة، وأيضاً أنّ أرصاد علماء الفلك بخصوص وقت دخول القمر في المحاق وخروجه والوقت المحدّد لرؤيته ومقدار بُعده الزاويّ مقاساً بالدرجات القوسيّة عن الشمس ومقدار ارتفاعه فوق الأفق مقاساً بالدرجات القوسيّة ورصد بُعده الأقصى عن الأرض وبُعده الأدنى عنها كلّها معلومات دقيقة يقينية معروفة لعلماء وطلاب علم الفلك وليست من قبيل الظنيّات.
وعلى ذلك، فلماذا لا يتمّ الاعتماد على إخبار الفلكيين الثقات عن ولادة الهلال للحكم بدخول الشهر الجديد؟
الجواب: إنّ المستفاد من الأدلّة الشرعية كون العبرة في بداية الشهر القمري بظهور الهلال على الأفق بنحوٍ قابل للرؤية بالعين المجرّدة لولا الغيم ونحوه من الموانع الخارجية، فلا تكفي ولادة الهلال وكونه موجوداً على الأفق ولكن بنحوٍ غير قابل للرؤية مطلقاً أو بنحوٍ غير قابل للرؤية إلّا بالأدوات المقرّبة والرصد المركّز.
وعلى هذا الأساس فإنّ إخبار الفلكيين عن ولادة الهلال وخروجه عن المحاق ممّا لا ينفع في الحكم بدخول الشهر القمري الجديد وإن كان معتمداً على الحسابات الرياضية القطعية.
وأمّا إخبارهم عن إمكانية رؤية الهلال بالعين المجرّدة في مناطق معيّنة إمّا مطلقاً أو في الأجواء المثالية ــ كما يعبّرون ــ فهو يعتمد على عنصرين:
أحدهما: المحاسبات الفلكيّة الخاصّة بوضع الهلال في تلك المناطق، أي: من حيث عمره ودرجة ارتفاعه عن الأفق ومقدار بُعده الزاويّ عن الشمس ونحو ذلك من العوامل المؤثّرة في الرؤية.
وثانيهما: التجارب الفلكية المعتمدة على رصد الهلال ميدانيّاً للتحقّق من أدنى الشروط المطلوبة لرؤيته بالعين المجرّدة، أي: من حيث العمر والارتفاع والبُعد عن الشمس وغير ذلك.
وهذا ما اختلفت بشأنه آراء الفلكيين، مثلاً بنى بعضهم على إمكانية رؤية الهلال وهو بعمر ١٤ ساعة في حين اشترط آخرون أن يكون في الحدّ الأدنى بعمر ١٦ ساعة، وقال بعضهم ١٨ ساعة وقيل غير ذلك، وأيضاً ادّعى بعضهم إمكانية رؤية الهلال وهو بارتفاع ٤ درجات على الأفق حين غروب الشمس، وقال آخرون أنّ الحدّ الأدنى من الارتفاع المطلوب لرؤيته هو ٥ درجات، وقال جمع أنّه ٦ درجات وقيل غير ذلك، وهكذا الحال في سائر العوامل المؤثّرة في الرؤية.
وعلى ذلك فلا سبيل للمكلّف إلى الأخذ بإخبار الفلكيين من إمكانية رؤية الهلال في منطقة كذا وكذا ممّا لا يتأكّد من ظهور الهلال فيها بنحوٍ قابل للرؤية بالعين المجرّدة، للنصوص الدالّة على النهي عن الاعتماد على الرأي والتظنّي في أمر الهلال، كقول الباقر(عليه السلام): (إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس هو بالرأي ولا بالتظنّي ولكن بالرؤية)(١).
نعم، إذا حصل للمكلّف العلم أو الاطمئنان ــ ولو من خلال التجربة والممارسة ــ بأنّ الهلال الموجود على الأفق المحلّي بحجم كذا وبارتفاع كذا وبسائر الخصوصيّات المؤثرة في الرؤية قابل لأن يُرى بالعين المجرّدة وإنّما لم يُرَ بسبب السحاب أو الضباب أو الغبار أو نحوها يلزمه العمل بموجب ما حصل له من العلم أو الاطمئنان.
---------
(١) تهذيب الأحكام: ج٤، ص١٥٦.
 
٨السؤال: يُحكى عن سيدّنا المرجع (دام ظلّه) أنّه لا يأخذ أحياناً بشهادات الشهود على رؤية الهلال إذا خالفت إخبار الفلكيين بعدم قابليته للرؤية مع أنّ الشهادات حسّية والإخبار حدسي، فما الوجه في ذلك؟
الجواب: إنّ إخبار الفلكيين على قسمين:
١ـ ما يعتمد الحسابات الرياضية ولا يتخلّله الاجتهاد والحدس الشخصي كإخبارهم عن زمان ولادة الهلال ووقت خروجه من المحاق ومقدار ارتفاعه فوق الأفق ونسبة القسم المنار إلى أكبر قطر يبلغه القرص ونحو ذلك، ولا يحدث عادةً اختلاف بين الفلكيين في هذا القسم، نعم ربما يخطئُ بعضهم في المحاسبة.
٢ـ ما يخضع للحدس والاجتهاد ويعتمد التجربة والممارسة، كقول بعضهم أنّ الهلال لا يكون قابلاً للرؤية إلّا إذا كان بارتفاع ٦ درجات فوق الأفق أو بعمر ٢٢ ساعة أو ببُعد كذا عن الشمس وأشباه ذلك، وفي هذا القسم يكثر الاختلاف في وجهات النظر.
فإذا كانت شهادات الشهود على رؤية الهلال مخالفة لإخبار الفلكيين من القسم الأوّل يحصل عادةً العلم أو الاطمئنان بخطأ الشهادة إذا أخبروا وفق حسابات دقيقة أنّ الهلال بعدُ في المحاق أو أنّه قد غرب قبل غروب الشمس ومع ذلك شهد اثنان أو أزيد برؤيته.
وأمّا إذا كانت الشهادات مخالفة لإخبار الفلكيين من القسم الثاني فربما يحصل الاطمئنان بخطأ الشهادات ــ بتجميع القرائن والشواهد ــ وربما لا يحصل الاطمئنان بذلك، وإن لم يحصل وكان من ضمن الشهود عدلان تتوفّر في شهادتهما شروط الحجيّة لزم العمل بمقتضاها ولا أثر للظن بخلافها.
وبالجملة : إنّ من شروط حجّية البيّنة (شهادة العدلين) على رؤية الهلال هو عدم العلم أو الاطمئنان باشتباهها، فإن حصل العلم أو الاطمئنان بذلك ولو من إخبار الفلكي ــ مثلاً ــ بكون الهلال بعدُ في المحاق أو بكونه بعدُ رفيعاً جدّاً بحيث لم ير مثله بالعين المجرّدة من قبل فلا عبرة بالبيّنة، وإلّا يؤخذ بها ولا أثر لإخبار الفلكي.
 
٩السؤال: نحن قسم من أهالي منطقة جبلة في محافظة الحلّة وتوجد في منطقتنا حسينية كنّا نعتمد عليها في الإفطار، وفي هذه المرّة سمعنا فيها صلاة العيد وقد شاع يبن أهالي المنطقة أنّه عيد وتعذّر علينا الاتّصال بالنجف الأشرف وتمّ الافطار، فهل يجب القضاء مع الكفارة أم القضاء فقط؟
الجواب: إذا حصل الاطمئنان بثبوت هلال شوال من شياع ونحوه ثمّ تبيّن خلافه فلا كفارة ولكن يجب القضاء، وإن لم يحصل الاطمئنان ومع ذلك تمّ الإفطار لزمت الكفارة مع القضاء.
 
١٠السؤال: لماذا لا نتّبع التقنية العلميّة (أقصد الأجهزة فيما يخصّ رؤية الهلال في الأعياد وبدايات الأشهر) ونعتمد الرؤية بالعين المجرّدة؟
الجواب: لأنّ المستفاد من النصوص الشرعية أنّ العبرة في دخول الشهر القمري بوجود الهلال في الأفق عند غروب الشمس بدرجة من الارتفاع والإضاءة بحيث يكون قابلاً للرؤية بالعين المجرّدة الاعتيادية لولا الموانع.
 
١١السؤال: هل يوجب ثبوت الهلال في بلدٍ ثبوته في الآخر أم يشترط اتّفاق الأفق؟
الجواب: يشترط الاتّفاق في الأفق بمعنى كون الرؤية في البلد الأوّل مستلزمة للرؤية في البلد الثاني لولا المانع من سحاب أو جبل أو نحوهما، ويتحقّق ذلك فيما إذا كان الهلال في الثاني وفق الحسابات الدقيقة الفلكيّة بمواصفات أفضل أو مماثلة لما كان عليه في البلد الأوّل من حيث الحجم والارتفاع عن الأفق وقت الغروب والبُعد الزاويّ عن الشمس.
 
١٢السؤال: ما حكم الهلال الذي يثبت في مكانٍ دون غيره؟
الجواب: لكلّ مكانٍ حكمه إلّا إذا ثبتت وحدة المكانين في الأفق.
 
١٣السؤال: إذا كان بين البلدين نحو ساعة أو أكثر في طلوع الشمس وغروبها فهل يعتبر أفقها في الهلال واحداً أم لا؟
الجواب: لا يعتبران متّحدين في الأفق، نعم رؤية الهلال في البلد ملازمة عادةً لرؤيته ــ لولا الموانع ــ في البلدان التي تقع على الغرب منه مع تقاربها في خطوط العرض، وكذلك إذا مكث الهلال في بلد الرؤية بأزيد ممّا يختلف مع البلدان الواقعة على شرقه في طلوع الشمس وغروبها كشف ذلك عن إمكانية رؤيته في تلك البلدان في صورة تقاربها مع بلد الرؤية في خطوط العرض.
 
١٤السؤال: هل يمكن تحديد المدى الذي نستطيع أن نقول فيه عن منطقتين أنّهما متوافقتان في الأفق؟
الجواب: لا يمكن تحديد ذلك بصورة مضبوطة، نعم إذا كان بلد المكلّف في غربي بلد الرؤية وكانا متقاربين في خطوط العرض ــ بأن لم يختلفا إلّا بدرجة أو درجتين ــ تكفي الرؤية لبلده أيضاً.
 
١٥السؤال: إذا حلّت الليلة الثلاثون من شهر شعبان ولم يُرَ الهلال فهل يجوز صوم نهارها؟
الجواب: يجوز صومه لا بنيّة رمضان، بل بنيّة اليوم الأخير من شعبان أو بنيّة القضاء مثلاً.
 
١٦السؤال: جاء في كتاب الفقه للمغتربين المسألة ١١٣: (إذا ثبت الهلال في الشرق فهل يثبت عندنا في الغرب؟)
وكان الجواب من سماحتكم: (إذا ثبت الهلال في الشرق فهو ثابت للغرب أيضاً مع عدم ابتعاد المكانين في خطوط العرض كثيراً)
وهذا الاستثناء ــ أي: عدم ابتعاد المكانين في خطوط العرض كثيراً ــ قد فُهم منه عدم التلازم بين ثبوت الهلال في الشرق الأوسط ــ كإيران والعراق والخليج ــ وثبوته في بلاد الغرب ــ كبريطانيا وفرنسا ــ لاختلاف خطوط العرض، وهذا ممّا أوجب بلبلةً وإرباكاً في ثبوت الهلال لدى أفراد الأسرة الواحدة داخل الجالية الشيعية في هذه البلدان، حيث إنّ السيد الخوئي (قدس سره) قد حكى الوفاق بين القائلين بمسلكه في الهلال ومسلك المشهور سواء اشترطنا أم لم نشترط اتّحاد الأفق في ثبوت الهلال في تلازم الرؤية وثبوت الهلال بين بلد الرؤية والبلاد التي تقع على الغرب منه، في حالة فرض تأخّر غروب الشمس في ذلك البلد الغربي عن بلد الرؤية، وإن اختلف خط العرض مادام الخط الفاصل بين النهار والليل وهو خط غروب الشمس يمرّ على بلد الرؤية قبل مروره على البلد الغربي، حكى ذلك السيد الخوئي في مراسلاته مع بعض تلاميذه في مسألة رؤية الهلال التي طبعت في رسالة مستقلّة تحت عنوان (مسألة في رؤية الهلال)، وقد حكي في ضمن تلك الرسالة كلام كلّ من الشهيدين الأوّل والثاني والنراقي في المستند دعواهم الوفاق من المشهور على ذلك.
هذا مع أنّ لازم الاستثناء المذكور في جوابكم هو حصول التعدّد في بداية الشهر الهلالي إلى ثلاثة أيّام، كما هو حاصل في عامنا هذا وفق التفصيل الذي ذكرتموه في الجواب بضميمة بيانات علماء الأرصاد الفلكية حيث قرّروا تولّد الهلال وإمكانية الرؤية المجرّدة في مناطق المحيط الهادئ ليلة الثلاثاء وامتناع الرؤية فيما سواها في تلك الليلة وإمكان الرؤية ليلة الأربعاء في بلاد العراق وإيران والخليج وحوض المتوسط دون شمال أوروبا الذي يزيد في خطوط العرض والذي يمتنع عندهم الرؤية ليلة الأربعاء، ويمكن لهم الرؤية ليلة الخميس فيكون مبدأ الشهر الهلالي في بقاع الأرض ثلاثة أيّام وبنحوٍ حلزوني الشكل، وهذا ممّا يقتضي عدم تطابق وعدم إمكان تطبيق اليوم القمري على اليوم الشمسي. فكيف التوفيق بين هذا التسالم المحكيّ والتفصيل المذكور في جوابكم مع ملاحظة المحاذير المتقدّمة؟
ثمّ إنّ هاهنا بحثاً صغرويّاً وتطبيقياً آخر وهو أنّه مع ثبوت الهلال في الشرق الأوسط كبلاد إيران والعراق والخليج وعدم إمكان الرؤية في بلاد الغرب كبريطانيا وفرنسا بسبب مانع في الأفق كالضباب، فهل يوجب ذلك التعدّد في ثبوت الهلال بحسب الظاهر؟
وهل دعوى الفلكيين بامتناع الرؤية في الغرب وإمكانها في الشرق توجب تعدّد الثبوت؟
الجواب: هنا عدّة أمور:
١ـ إنّه وإن ذكر جمع من فقهاء الفريقين أنّ رؤية الهلال في أيّ مكانٍ تستلزم رؤيته في الأمكنة الواقعة في غربه(١) إلّا أنّه لم يثبت كون ذلك مشهوراً حتّى بين المتأخرين فضلاً عن التسالم عليه، بل يستفاد من كلام شيخنا الشهيد الأوّل خلاف ذلك حيث ذكر ما نصّه: (ويحتمل ثبوت الهلال في البلاد المغربية برؤيته في البلاد المشرقية وإن تباعدت، للقطع بالرؤية عند عدم المانع)(٢).
فيلاحظ أنّه (قدس سره) لم يتبنّ الملازمة بين الرؤية في البلاد المشرقية وثبوت الرؤية في البلاد المغربية، وإنّما ذكرها على سبيل الاحتمال بالرغم من التزامه بالملازمة بحسب الضوابط الفلكية.
وبعض الفقهاء الآخرين الذين التزموا بالملازمة المذكورة إنّما قالوا بها اعتقاداً منهم بالأولويّة القطعية، قال السيد الحكيم (قدس سره): (وإذا رُئي في البلاد الشرقية فإنّه تثبت رؤيته في الغربية بطريق أولى) وعلّل ذلك بعضهم بأنّ القمر لا يرجع ولا يتوقف.
ولكن الوجه المذكور لا يقتضي إلّا إزدياد القسم المُنار من القمر كلّما اتّجه غرباً، فإذا كان عمره عند غروب الشمس في استراليا ٢١ ساعة و ٣٦ دقيقة يكون عمره في طهران ٢٧ ساعة و ٥٠ دقيقة، وفي النجف ٢٨ ساعة و ١٩ دقيقة، وفي لندن ٣٠ ساعة و ٥٧ دقيقة وهكذا، ولكن هذا لا يقتضي كونه قابلاً للرؤية في جميع تلك البلاد، إذ لدرجة ارتفاع الهلال عن الأفق دخلٌ تامّ في إمكانية الرؤية وعدمها، فقد يكون الهلال بعمر ٢١ ساعة في ارتفاع ٨ درجات قابلاً للرؤية ولا يكون بعمر ٣٠ ساعة قابلاً لها، لكونه في ارتفاع ١ درجة فقط.
إن قيل: إنّ عدم إمكانية الرؤية عند كون الهلال قريباً من الأفق وقت الغروب إنّما هو من جهة المانع الخارجي وهو اجتماع الغبار والبخار ونحوهما حوالي الأفق، وقد ادّعى المحقّق النراقي الإجماع على عدم العبرة بالموانع الخارجية الهوائية والأرضية(٣).
قلت: إنّ ذلك في الموانع الطارئة المتغيّرة كالسحاب والضباب، وأمّا الموانع الطبيعية التي لا تنفكّ عن المناطق القريبة من الأفق في مختلف الأزمنة والأمكنة فليست كذلك، لعدم الدليل عليه، بل مقتضى كون الأهلّة مواقيت للناس ــ كما ورد في الآية الكريمة ــ عدم العبرة بوجود الهلال في الأفق إلّا إذا كان من حيث الحجم ومن حيث الارتفاع عن الأفق ومن حيث البُعد عن الشمس قابلاً للرؤية بالعين المجرّدة لولا الغيم ونحوه، فالهلال الذي يكون بارتفاع ٣ درجات مثلاً حيث إنّه لا يكون قابلاً للرؤية عادةً لا يصلح أن يكون ميقاتاً للناس.
٢ـ المعلومات الفلكية المتوفّرة لدينا لا تشير إلى حصول التعدّد في بداية الشهر بثلاثة أيّام في رمضان الجاري، إذ لم يكن الهلال في ليلة الثلاثاء قابلاً للرؤية في أيٍّ من البقاع، لأنّ القسم المنار منه كان دون الحدّ الأدنى المطلوب وإنّما كان يرى في ليلة الأربعاء حتّى في سيدني ونحوه من البلاد، مع أنّه لو فرض حصول التعدّد في بداية الشهر بثلاثة أيّام فليس في ذلك محذور أصلاً.
٣ـ قد ظهر ممّا مرّ أنّه مع رؤية الهلال في بلاد الشرق إن كان عدم إمكان الرؤية في بلاد الغرب من جهة الغيم والضباب ونحوهما يحكم بدخول الشهر فيها أيضاً، وأمّا إذا لم يكن الهلال في أفقها بالارتفاع الذي يمكن رؤيته عادةً فلا يحكم بدخول الشهر فتعدّد بداية الشهر الهلالي، وهذا التعدّد واقعي لا ظاهري.
ودعوى الفلكيين عدم إمكان الرؤية لانخفاض درجة الهلال في الأفق ممّا لا عبرة بها إلّا من حيث عدم حصول الاطمئنان بإمكانية الرؤية عادةً. والله العالم.
--------------------------------
(١) جواهر الكلام: ج١٦، ص٣٦١ ـ التحفة السنيّة: ص١٦٧ ـ مستمسك العروة الوثقى: ج٨، ص٤٧٠ ـ مستند العروة: ج٢، ص١١٢ ـ مغني المحتاج: ج١، ص٤٢٢.
(٢) الدروس: ج١، ص٢٨٥.
(٣) مستند الشيعة: ج١٠، ص٤٢٣.
 
١٧السؤال: سبق أن سُئل سيدنا المرجع (دام ظلّه) عمّا إذا رئي الهلال بالتلسكوب (المنظار) وحصل اليقين للرائي بكونه هلالاً ولكن لم يمكن رؤيته بالعين المجرّدة، فهل يعتدّ الرائي بهذه الرؤية وهل يعتدّ بها غيره أم لا؟
فأجاب (دام ظلّه): (لا عبرة برؤية الهلال بالعين المسلّحة سواء بالنسبة إلى الرائي وغيره).
ويسأل بعض أهل العلم عن الوجه في هذه الفتوى مع أنّ الرؤية المذكورة في النصوص تعمّ بإطلاقها الرؤية بالعين المجرّدة والعين المسلّحة، ومجرّد كون الرؤية بالعين المسلّحة غير متعارفة لا يمنع من شمول الإطلاق لها كما في نظائر المورد ولا سيّما أنّ الرؤية طريق إلى ظهور الهلال على الأفق ولا موضوعية لها.
هذا، بالإضافة إلى صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يرى الهلال في شهر رمضان وحده لا يبصره غيره له أن يصوم؟ قال: إذا لم يشكّ فيه فليصم وإلّا فليصم مع الناس) (تهذيب الأحكام: ج٤، ص٣١٧).
فإنّها لو لم تختصّ بذي البصر الحادّ بقرينة قوله: (ولا يبصره غيره) بدل (ولم يبصره غيره) فلا أقلّ من شمولها له بإطلاقها، وعلى ذلك فهي دليل على كفاية رؤية الهلال بالعين الحادّة جدّاً فتلحق بها الرؤية بالمنظار لوحدة المناط.
الجواب: ١ـ أمّا التمسّك بإطلاق نصوص الرؤية فهو مخدوش من جهة أنّ الهلال كان عند العرب ميقاتاً يبتدئون به الشهر القمري الذي اعتمدوا عليه في مختلف شؤون حياتهم، ولمّا جاء الدين الإسلامي الحنيف أقرّهم على ذلك، قال تعالى: (يسألونك عن الأهِلّة قل هي مواقيت للناس والحج) ومن المؤكّد أنّ ما يصلح أن يكون ميقاتاً للناس بصورة عامّة هو الهلال الذي يظهر على الأفق المحلّي بنحوٍ قابل للرؤية بالعين المتعارفة المجرّدة، وأمّا ما لا يرى إلّا بالأدوات المقرّبة أو ما لا يراه إلّا نادرٌ من الناس يمتاز برؤية بصرية حادّة جدّاً، فهو لا يصلح أن يكون ميقاتاً للناس عامّةً.
فبهذه القرينة لا بدّ من البناء على أنّ الرؤية المذكورة في النصوص إنّما أخذت طريقاً إلى ظهور الهلال على الأفق بحجمٍ وبارتفاعٍ مناسبَين لأن يُرى بالعين المتعارفة غير المسلّحة لولا الموانع الخارجية من سحاب ونحوه.
٢ـ وأمّا صحيحة علي بن جعفر، فالظاهر أنّ المراد بقول الراوي فيها: (ولا يبصره غيره) هو مجرّد عدم تحقّق الرؤية من غيره لا عدم إمكانية تحقّقها من جهة تفرّد الرائي بحدّة البصر بحيث لا يوجد نظير له، فإنّه فرض لا واقع له في أيّ عصر كما لا يخفى، وعلى ذلك فليس مورد الصحيحة هو خصوص ذي البصر الحادّ جدّاً الذي يرى من الهلال ما لا يراه غيره، وأمّا إطلاقها لهذا المورد فهو مخدوش لما سبق.
على أنّه يمكن أن يقال: إنّ هذه الصحيحة ناظرة ــ سؤالاً وجواباً ــ إلى أمر آخر وهو أنّ رؤية الهلال حجّة للمتفرّد بها أم لا؟ وذلك أنّه لمّا ورد في العديد من النصوص ــ ومنها روايات محمد بن مسلم وأبي أيّوب الخزاز وعبد الله بن بكير وأبي العباس(١) ــ التأكيد على أنّه لا عبرة بالرؤية إذا ادّعاها شخص ولم يصدّقه سائر المستهلّين أراد الراوي أن يستفسر عن اختصاص هذا الحكم بالآخرين أو شموله للرائي نفسه ــ و لا سيّما أنّه قد ذهب عدد من فقهاء الجمهور إلى شموله للرائي وأنّه لا يصوم إلّا مع الناس ــ وقد أجاب الإمام (عليه السلام) بأنّ الرائي إذا كان متيقّناً من رؤيته للهلال فليعمل بموجبها وإلّا فليتابع الناس، أي: أنّ رؤيته معتبرة لنفسه وإن لم تكن معتبرة للآخرين.
وعلى ذلك فالصحيحة مسوقة لبيان أنّ رؤية المتفرّد بها حجّة لنفسه دون غيره ولا ينعقد لها الإطلاق من جهة كون الهلال غير قابل للرؤية بالعين المتعارفة.
هذا كلّه مضافاً إلى أنّه لو بني على كون المناط في دخول الشهر بظهور الهلال في الأفق بنحوٍ قابل للرؤية ولو بأقوى التلسكوبات والأدوات المقرّبة لاقتضى ذلك أنّ صيام النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) وفطرهم وحجّهم وسائر أعمالهم التي لها أيّام خاصّة من الشهور لم تكن تقع في كثير من الحالات في أيّامها الحقيقية، لوضوح أنّهم (عليهم السلام) كانوا يعتمدون على الرؤية المتعارفة في تعيين بدايات الأشهر الهلالية مع أنّه قلّما يُرى الهلال بالعين المجرّدة واضحاً ومرتفعاً في ليلة ولا يكون قابلاً للرؤية في الليلة السابقة عليها ببعض الأدوات المقرّبة القوية، وهل هذا ما يمكن الالتزام به؟!
----------------------------
(١) تهذيب الأحكام: ج٤، ص١٥٦، ١٦٠، ١٦٤.

 

 

 

 

محرر الموقع : 2023 - 05 - 30