رفع الحصانة الأميركية عن الأموال العراقية.. الواقع والتحديات
    

 

 

 

الكاتب: د. مظهر محمد صالح

اعلن البيت الابيض الاميركي في 29 مايس 2014 قرار الرئيس الاميركي باراك اوباما برفع الحصانة القانونية  الممنوحة لصندوق تنمية العراق وعوائد النفط والمنتجات النفطية والموجودات المالية والممتلكات الاخرى التي يمسكها البنك المركزي العراقي، إزاء الملاحقات القضائية المرفوعة على العراق ،عازياً السبب الى التطور الحاصل في قدرة حكومة جمهورية العراق على إدارة التبعات المرافقة للديون المترتبة على النظام السياسي السابق وما صاحبها من دعاوى قضائية رفعت عليه .مؤكداً ان هذا الاجراء ليس من شأنه ان يؤثر في حالة الطوارئ الوطنية للولايات المتحدة المنصوص عليها في الامر الرئاسي التنفيذي 13303 في 22 مايس 2003 الذي جرى تمديده تباعاً وبصورة سنوية وعلى مدار اكثر من عشر سنوات. 
وبهذا طوى العراق عقداً آخر من عقوده الداكنة التي سجلها تاريخ اقتصاده السياسي وعلاقاته المتعثرة بالمجتمع الدولي والتي امتدت منذ نهاية صيف عام 1990 يوم غزا العراق الكويت وواجه النظام السياسي السابق العقوبات الدولية كاملة وتحمل العراق المسؤولية التامة الناجمة عن خسائر حرب الكويت التي جسدها ابتداءً وعلى نحو خاص القراران الصادران عن مجلس الامن الدولي والمرقمان 660 و687 للاعوام 1990 و1991 على التوالي، ليعلن عن انتهاء العقوبات ولكن بعد عقدين ونيف من الزمن وبقرار مجلس الامن  المرقم 2108 في 27 حزيران  2014 الذي قضى باخراج العراق من طائلة الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة. وهو الفصل الذي خول المجلس المذكور ومنذ العام 1990 صلاحية التصدي للافعال المهددة للسلم العالمي او الاعتداء على السلام في العالم باستخدام وسائل المقاطعة الاقتصادية  وتسويغ استعمال القوة العسكرية ضد العراق . وفي ضوء ما تعرض اليه العراق من تغيرات سياسية واقتصادية واعمال حربية هائلة جسدها احتلال القوات الاميركية والاجنبية الاخرى للبلاد في 9 نيسان 2003 وهزيمة النظام السياسي السابق، حين اصدر مجلس الامن قراره المرقم 1483 في مايس 2003 الذي وفر الحماية القانونية على كميات النفط الخام المصدر وكذلك المنتجات النفطية و لغاز الطبيعي التي منشؤها العراق بالحصانة  من الدعاوى القضائية المثارة من الدائنين التجاريين او غيرههم  على العراق.فضلاً عن توفير الحماية على عائدات صندوق تنمية العراق DFI وهو خلاصة حساب المقبوضات النفطية بعد استقطاع 5 بالمئة كتعويضات لمتضرري حرب الكويت بعد اضافة اي اموال مجمدة او غيرها تعود ملكيتها لجمهورية العراق يتم أطلاقها ومن ثم ايداعها في  حساب صندوق تنمية العراق. ويلحظ ان الحساب المذكور آنفاً قد جرى فتحه باسم البنك المركزي العراقي ( بنك الدولة) لدى البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك(وهو فرع من فروع البنك المركزي الاميركي). وقد اٌخضع الحساب المذكور للمراجعة والمراقبة السنوية من جانب لجنة من الامم المتحدة شُكلت استناداً لقرار مجلس الامن 1483 في العام 2003 سمي بـ(المجلس الدولي للمشورة والرقابة IAMB) ذلك بغية الاطمئنان بان اموال الصندوق تصرف على الشعب العراقي، فضلاً عن تدقيق عوائد النفط بما يكفل استقطاع 5 بالمئة كتعويضات لمتضرري حرب الكويت ويتسلمها صندوق الامم المتحدة للتعويضات UNCC.
وانسجاماً مع قوانين الطوارئ الوطنية للولايات المتحدة الاميركية، اصدرالبيت الابيض الامر الرئاسي التنفيذي الاول في مايس 2003 تزامناً مع قرار مجلس الامن 1483 المذكور آنفاً. إذ وفر الامر الرئاسي التنفيذي للرئيس الاميركي والذي جرى تجديده سنوياً طوال اكثر من عقد من الزمن، حماية حكومة الولايات المتحدة لاموال البنك المركزي العراقي من خطر الحجز القضائي او التسويات بأوامر حكم قضائية من طرف واحد تصدرها المحاكم الاجنبية .
وبغية تخفيف بعض مواد الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة قبل اعتماد قرار رفعه كليةً ، فقد اصدر مجلس الامن الدولي ثلاثة قرارات مهمة كان من بينها القرار رقم 1956 في 15 كانون الاول 2010 الذي انهى رسمياً الترتيبات الرقابية التي تشرف عليها الامم المتحدة والمتعلقة بآلية الحساب المفرد لحساب المقبوضات النفطية وحساب صندوق تنمية العراق  DFIالمرتبط به في مدة تنتهي في الـ 30 حزيران 2011 ،مما يعني نهاية الحماية الدولية على اموال جمهورية العراق. وعلى الرغم من ذلك فان تواجد القوات الاميركية التي لم يتم انسحابها الكامل من العراق الا في نهاية كانون الاول من العام 2011، قد سوغ تجديد الامر الرئاسي التنفيذي في الـ 22 من مايس 2011 لحماية اموال جمهورية العراق المودعة في الولايات المتحدة ضد الاجراءات القضائية. واستمر تجديد الامر الرئاسي للمرة الاخيرة في شهر مايس 2013ولمدة عام ،وهو امر سبق قرار مجلس الامن رقم 2108 في 27 حزيران 2013 الذي اخرج العراق من طائلة الفصل السابع وبنوده المتبقية . وهكذا عدت المشكلات العالقة مع الكويت بكونها خارج نطاق ذلك الفصل من ميثاق الامم المتحدة، مما يقتضي حلها ودياً وبما ينسجم والفصل السادس من الميثاق المذكور (اي حل الخلافات بين الامم بالطرق السلمية).
وفي ضوء ما تقدم، ومع انسحاب الجيش الاميركي من العراق وخروج العراق من طائلة الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة، صار من غير المنطقي (وعلى وفق الاعراف والمبادئ التي تقوم عليها السياسة الدولية وموجبات القانون الدولي ) ان يعتمد الرئيس الاميركي حالة الطوارئ الوطنية بحق العراق لتمديد الحماية على امواله ولاسيما بعد انتهاء الدلالات الموضوعية التي كانت تسوغ لرئيس الولايات المتحدة الاميركية استصدار امره الرئاسي التنفيذي لسنة أخرى لكي يحمي بموجبه اموال جمهورية العراق على اراضي الولايات المتحدة بعيداً عن الملاحقات القضائية!.
ولكن يبقى السؤال القائم والمثار دوماً عن ماهية الضمانات المتوافرة حالياً داخل منطقة الولاية القضائية الاميركية بعد ان جرى رفع الحماية دولياً ومن ثم اميركياً ، وما هو مقدار الحماية القانونية الممكنة التي تجعل اموال الجمهورية في منأى عن مخاطر الحجز القضائي إزء الدعاوى المقامة او قرارات الحكم المتخذة  في المحاكم الفيدرالية الاميركية او غيرها ضد بعض كيانات حكومة جمهورية العراق عن قضايا تتعلق بمرحلة ما قبل العام 1990 ولاسيما الديون التجارية التي لم تجرِ تسويتها بموجب شروط اتفاقية نادي باريس 2004؟ وللاجابة على هذا التساؤل المهم والحساس فيمكن ابداء وجهة النظر الاتية:
اولاً: ليس في مبادئ القانون الدولي ما يسوغ قيام اشخاص بتعريض اية شحنات من النفط العراقي الخام المصدر ولاسيما FOB الى اجراءات الحجز القضائي من قبل دائنين تجاريين في اية منطقة ولاية قضائية، ذلك بسبب انتقال ملكية النفط المصدر الى الغير ولاسيما المشترين له. اضافة الى ذلك،  فمازالت الامم المتحدة تتولى استقطاع نسبة 5 بالمئة  من عوائد صادرات نفط العراق  كتعويضات عن حرب الكويت والتي تودع إبتداءً في حساب المقبوضات النفطية المفرد OPRA  المفتوح لدى البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك ومن ثم تُسحب لمصلحة صندوق الامم المتحدة للتعويضات.وهو امر لايسمح بايقاع الحجز على اموال يعود بعضها كحقوق للامم المتحدة .كما لا يلحظ وجود سابقة قضائية دولية تسوغ مثل هذه التصرفات او السيناريوهات المحتملة في العصر الحديث والعلاقات بين الامم. ويُتوقع انتهاء تلك التعويضات الناجمة عن حرب الكويت وتسديدها كلية في مايس من العام 2015.
ثانياَ: لم تكن ودائع البنك المركزي العراقي في حساباته المفتوحة لدى البنك الاحتياطي الفيدرالي بمنأى عن الحجوزات القضائية ولاسيما اذا كانت تلك الحجوزات تحمل ضمانات او كفالات سابقة صادرة عن البنك المركزي قبل العام 1990 الى الدائنين والتي ربما تتعهد تلك الكفالات على نحو يعطل الحصانات القانونية الضمنية المتوافرة  على امواله، والتي سنعرج عليها في ادناه، في حالة النكول  عن تسديد الدين او الالتزام المالي امام الدائنين والقائمة على مبدأ ما يسمى بتعطيل الحصانة القانونيةExpress Waiver Creditors.
وعلى الرغم من هذه الجزئية، فهناك سابقة قضائية، تمثلت بالدعوى القضائية المقامة على حكومة الارجنتين من دائنين تجاريين في الولايات المتحدة،ولم تفلح بمصادرة اموال الحكومة الارجنتينية المودعة لدى البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك في العام 2011 ويعود السبب في ذلك ان تلك الاموال مودعة لدى بنك مركزي يحترم سيادة واستقلالية المصرف المركزي الارجنتيني فاتح الحساب بالانابة عن الحكومة الارجنتينية.ان هذه السابقة القضائية المهمة توفر للعراق ركناً مهماً من اركان الحصانة لتوافر  الشرط  الموضوعي في الحصانات المتبادلة على الاموال بين المصارف المركزية المستقلة ( اي البنك المركزي العراقي والبنك الاحتياطي الفيدرالي).
ثالثاً: استطاع البنك المركزي العراقي تنويع الاحتياطيات الاجنبية المتوافرة في محفظته الاستثمارية ومنذ سنوات عديدة في مناطق ولاية قضائية خارج الولايات المتحدة و آلية الامر الرئاسي الاميركي اوحماية الامم المتحدة ولاسيما في المصارف المركزية لبعض بلدان الاتحاد الاوروبي الرئيسة. ولم يستطع احد من الدائنين التجاريين تعطيل الحصانة القانونية EWC وحتى من جانب الدائنين الذين سبق وان كفلهم البنك المركزي العراقي نيابة عن الحكومة في النظام السياسي السابق.
رابعاً: اكدت الوقائع في اعلاه ان قيام البنك المركزي العراقي بمهامه القانونية والمعتادة كبنك للدولة واستمراره بمسك حسابات حكومة جمهورية العراق في مناطق ولاية قضائية ضامنة،  هو بنفسه امر موفر للضمانات القانونية حيال محاولة المساس بالاموال العامة للبلاد تحت ذريعة الملاحقة القضائية او الحجوزات المثارة من جانب الدائنين التجاريين حتى لو تم استخدام تلك الحسابات الحكومية للاغراض التجارية او فتح الاعتمادات كآلية لتمويل التجارة.منوهين بهذا الشأن، ان المدونة القانونية المالية والنقدية  الفرنسية المعدلة بالقانون 842 /2005 والتي جاءت تحت عنوان: الثقة وتحديث الاقتصاد هي موفرة لحماية اموال البنك المركزي لبلادنا والمودعة لدى البنك المركزي الفرنسي...وهكذا هو الحال نفسه في منطقة الولاية القضائية البريطانية (ولو بشكل اقل حرية) في استخدام ودائع الحكومة  المودعة باسم البنك المركزي العراقي.
ختاما: ينبغي ان لا نغفل الدور الذي ادته ومازالت تؤديه وزارة العدل وفريقها الفني الدائم في مجلس الوزراء والمعني بحماية اموال الجمهورية والدفاع عن حقوق العراق واصوله  المختلفة حيال الدعاوى التي تثار ضد بلادنا في المحاكم الاجنبية والتعرض لاموال العراق الرسمية هنا وهناك،ما كان له الاثر الفاعل في التصدي للدعاوى الباطلة وتعطيل الكثير منها واسترداد الحقوق المغبونة ودعم وصيانة اموال جمهورية العراق طوال السنوات الماضية.

 

 

 

محرر الموقع : 2014 - 06 - 04