الاصلاح السياسي وبناء الدولة الديمقراطية
    

الاصلاح السياسي  وبناء الدولة الديمقراطية                          

د.ماجد احمد الزاملي                                    

الصراعات السياسية والحزبية الضيقة في هذه المرحلة التي يمر بها بلدنا ، ينبغي تجاوزها ويحل محلها الوفاء بالعهود  وانجاز الممكن منها ،وتطبيق البرامج التي تم تسطيرها والدعاية لها خلال فترات الانتخابات ، وخدمة الناس يجب أن تحل محل خدمة المطامح الذاتية  ، ومسؤولية الطبقة السياسية الوفاء لمنطق التعاقد, للسياسة أخلاق، واستحقاق في عالم القيم , وان منطق التنازل للوطن في القضايا الكبرى ،هو الذي ينبغي أن يكون سائدا ويرافقه في ذلك الكف عن التحدث بلغة الحرب ، لأن الرابح الأكبر هو الوطن والمواطن البسيط  ، وبالتالي لا الأغلبية يجب أن تهيمن ولا الأقلية يحق لها أن تحتكر المشهد وتمارس ابتزازا ولا حتى مساومة بعيدة عن منطق ميزان القوى الحقيقي والديمقراطي على الارض.  وجدير بمكونات الطبقة السياسية في مجملها العمل على تفادي النظر الى العملية السياسية من زاوية التنافس التجاري في السوق بين العرض والطلب ، وذلك لكون الفعل السياسي المسؤول يقوم على تقديم الخدمة العمومية للناس وفداء الوطن والتضحية بالمصلحة الشخصية والطائفية والحزبية ،من أجل المصلحة العامة للشعب ، بينما واقع الحال الذي يؤطر المجال السياسي والعمومي ، هو أن العملة المتداولة في السوق تصعد قيمتها وتهبط ، بارتفاع حرارة الاحتكار والجشع و اذكاء منطق الحيلة والمكر والكيد ،وهذا الاسلوب لن يؤدي الا للتفكك وتردي الاوضاع الاقتصادية والخدمية. ان ما ينتظر الطبقة السياسية بمجملها بعد صياغة الدستور هو تحصين البلاد من النزعات التحكمية والتطلعات الاستبدادية ،وذلك بالعمل على صنع ارادة حازمة وعزم حاسميقضي على  نهج السلطوية وهيمنة الاحزاب  المتنفذة وعدم  اقصاء الاغلبية للمعارضة ، ويحترم الحريات العامة ويضمن حقوق الأقلية السياسية ويغير نظام توزيع الخيرات والمنافع والثروات ، ويفتح نقاشا وطنيا حول مشاكل الأمن والتفكك الأسري والعنف المجتمعي وتقلب المناخ وندرة المياه وأزمة صناديق التقاعد. ان النقاش بين السياسيين من المفروض أن يتوجه صوب تأسيس وصياغة نمط المجتمع الذي يريد الشعب بناءه ، والنموذج التنموي الذي نتغنى جميعا ببناءه ، ومنوال التحديث والتطوير الذي يلائم هذه المرحلة الانتقالية ويدمج الجهات المحرومة والمناطق المهمة في الدورة الاقتصادية والتنموية ويحقق الاعتراف المتبادل والمساواة بين الفئات والشرائح والأجيال والطبقات . أن تكون الدولة مستوطن الإرادة السياسية الجازمة في التحول الديمقراطي ، وان الاداء العملي والانجاز التنفيذي والعقلانية التدبيرية يجب أن تأتي الى التاريخ الديمقراطي والوطني بواسطة السياسي والمثقف ،وتبحث لها عن أوثق السبل الصادقة والمخلصة لصناعة الخير المشترك ،وتجعل الحق ينتصر في النهاية على التزييف والتزوير الماكر للتاريخ وحقائقه ، وتوفر الفرصة الكاملة لكي تساهم في اتخاذ القرارات الحاسمة والمناسبة بشأن المستقبل الاجتماع السياسي والوطني للجماعة السياسية المغربية التي تصون وحدة المسير والمصير.  وثمة تساؤل آخر في هذا المجال هو: ما هو مدى أو الحجم الحقيقي للتغيرات المطلوبة بحيث يمكن أن تندرج تحت مفهوم الإصلاح؟ فأحياناً يمكن إحداث تغييرات رمزية أو صورية أو تجميلية في مؤسسة معينة أو سياسة ما، ذلك أن مثل هذه التغيرات الهامشية البسيطة أو الشكلية ذات قيمة ومغزى لمن يقف وراءها، فالإصلاحات الجزئية والشكلية الانتقائية التي تقوم بها بعض الأنظمة العربية، مثل إجراء انتخابات صورية أو إجراء حوار مع بعض جماعات المعارضة أو رفع شعارات مثل الشفافية والمساءلة أو التنمية السياسية، ....الخ هي إصلاحات مبتورة بلا جدوى أو مضمون، وبالتالي لا تندرج تحت مفهوم الإصلاح أو التغيير، أن أي تغيير حقيقي يعني الانتقال من وضع إلى وضع مغاير كلياً، وبالتالي فان التغييرات المحدودة أو الشكلية ذات الأثر المحدود لا يمكن أن تدخل نطاق مفهوم الإصلاح، لأنه يتطلب إحداث تغييرات جذرية عميقة شاملة ومستديمة. ولما كان النظام الديموقراطي يرتبط بوجود مؤسسات قوية، تتمثل في السلطات  الثلاثة المعروفة من تنفيذية وتشريعية وقضائية، فضلا عن الصحافة والإعلام ثم مؤسسات المجتمع المدني، فلابد من مراجعة هذه المؤسسات لضمان أدائها الديموقراطي السليم، الأمر الذي يفرض الشفافية التامة واختيار القيادات الفاعلة، والتحديد الزمني لفترة قيامها بمسئوليتها ، التطبيق الفعلى لمبدأ سيادة القانون بما لا يعرف الاستثناء مهما كانت مبررات هذا الاستثناء ودواعيه. من هنا فإن أمر الإصلاح السياسي وما يرتبط به من تحديث لمختلف القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد والاجتماع والثقافة والسياسة أيضاً مرتبط بحضور الإرادة الشعبية في مركز القرار السياسي في البلاد , ولا يجوز إحالة الأمر لهذا الحزب أو ذاك , هذه السلطة أو تلك , من السلطات التي سكنها أصلاً هاجس المشروعية التي تفتقد لها على امتداد العقود السابقة. مقاومة مراكز مناهضة التغيير، فإرادة الإصلاح ستصطدم حتما بقوى الجمود والتخلف والسلطوية ، التي هي دائما نفس القوى التي تشد البلاد إلى الوراء وتحن إلى الماضي التحكمى كلما كان هناك اندفاع نحو التجديد والتقدم والانتقال  - إن اختيار التعامل معها يجب أن يكون مبدئيا  بعيدا عن حملات التصفية والإثارة، والاحتكام إلى القانون وإصلاح وتخليق الحياة العامة، والاعتماد على الامتداد الشعبي لمواصلة النضال الديمقراطي من موقع قيادة العمل الحكومي وتعبئة الجماهير في اتجاه إقرار السيادة الشعبية، وتفعيل المجتمع المدني في إطار محاربة الفساد والتسلط وزرع ثقافة المواطنة والحس المدني وروح الواجب والمسؤولية. إن شروط الانعتاق من الخطاب السياسي المتردي  هو التحليل النقدي للاحتجاجات اليومية وتركيز الانتباه على المطالب الشعبية الحقيقية والفعلية ، ومعالجة أزمات البطالة والتعليم والصحة ، والإسهام من طرف الجميع في تأسيس مقومات العيش المشترك وتطوير أدوات التضامن الاجتماعي وتنويع أشكال الفعل العمومي والشروع في تطهير المؤسسات من الفساد والبطالة الإنتاجية وذلك باذكاء ثقافة العمل والانجاز والعطاء.  ان العقلية الديمقراطية الحقيقية تقتضي أن يحترم المنافس وأن يعامل بندية وأن تجد قوى المعارضة الحقيقية - داخل المؤسسات وخارجها - الفضاءات والمنابر الكافية للتعبير عن وجهات نظرها ، وأن يعطى للقوى المشكلة للاغلبية السياسية فرصة للتشكل وممارسة الحكم وامتلاك جوهر السلطة ، وأن تكون العلاقة بينهما يحكمها التوازن والرقابة والإصغاء المتبادل والنقد المسؤول ،وذلك لأن الجميع يركبون نفس السفينة ويتقاسمون نفس المشاغل ويواجهون نفس التحديات ، وتزول بينهم الفوارق والاختلافات .ان أهم المعاول النظرية الممكنة هو تخليص السياسة من قيم وثقافة الالتزام الاجتماعي وما يرافق ذلك من مظاهر العنف والاشاعة واتباع الأهواء والشعارات الفضفاضة التي تغذي الفتن والانقسامات بين القوى السياسية والمدنية ، وفي المقابل يجدر بالفاعلين الاجتماعيين والسياسيين التحلي بمنطق الحكمة العملية والعقل النقدي الناضج والفاعل والمعنى المقصود والارادة المشتركة في البناء والارتقاء بالمواطن والوطن. ان الاشكال الرئيسية التي يجب أن ينشغل بها التفكير السياسي في هذه المرحلة الجديدة من التطور السياسي لشعبنا ، هو تحسين الأوضاع الاجتماعية وايلاء أهمية قصوى للتكافؤ والمساواة في الفرص والحقوق بين الأفراد على المستوى المعيشي وتحت مظلة القانون، والابتعاد عن التمركز الجهوي والتعصب الايديولوجي ، والكف عن البحث عن المصلحة الحزبية المحدودة وعن استعراض القوة الشعبية وعضلات المال السياسي والقرب من مراكز النفوذ والتفرد السلطوي.                          

ان الخطاب السياسي الاصلاحي يجب ألا يتورط هو نفسه في التشويهات وهتك الحرمات والتعرض للحياة الشخصية للناس بالتحريض والاتهام والانفعال والمغالطة ولا يجب ان يجنح نحو التمركز الطائفي والمرضي حول الذات ، وادعاء النقاء وامتلاك الحقيقة المطلقة ولا يجب ان يسقط في الانتهازية التسلطية الهيمنية، و لا البرغماتية الفجة والتعويل على القهر ومنطق القوة المباشرة، وانما هو فرصة لردم  الهوة بين الأنا والآخر ، وتقريب المسافات بين المتزاحمين والمتدافعين سياسيا ، وتدبير شؤون الناس باللين والمحاورة في كنف السلم الاجتماعي والتعايش الاهلي ، والتقليل من دائرة الأعداء وكسب المزيد من الأصدقاء والارتقاء باللغة المستعملة نحو الدرجة المقبولة من الاحتجاج والمقبولية الشعبية و السمو الأخلاقي وتدبير الاختلاف بالعقلانية المتزنة ، مع العمل على نبذ مفردات الخطاب الحربي والحدي المبني على التشكيك والتوريط والكيد. لا تحكم السياسة بنية عقائدية راسخة ومغلقة.                                                  

تقتضي المرحلة القادمة من التطور السياسي لقضية الإصلاح الشامل في بلدنا ، تهذيب القاموس الاصطلاحي والجهاز المفاهيمي والخطاب السياسي المنتج والمتداول من قبل النخب السياسية والإعلامية والثقافية ومن قبل القادة الحزبيون ، والابتعاد عن لهجة التهديد والوعيد والكف عن تسخين الأجواء والتجييش الفئوي للشارع الاجتماعي، والاقتصار على التعقل والحلم والتهدئة والتوجه نحو تطبيق البرامج والوفاء بالتعهدات والشروع في العمل والانجاز ، وتحمل المسؤولية السياسية والعمومية على أحسن وجه والتركيز على تدعيم أواصر الوطنية في الاداء السياسي العام لمختلف القوى السياسية ، والتعويل على الكفاءات وذوي الخبرة . ان المطلوب اليوم ، هو القيام بواجب مضاعف وذلك بالمحافظة على قيم التغيير و طاقة الإصلاح والعمل على تصحيح المسار السياسي والتنموي في البلد ، من أجل القطع مع الماضي التسلطي من جهة وحماية العملية الديمقراطية من أي انزلاقات في اتجاه الردة.                                                                        

 

محرر الموقع : 2014 - 04 - 16