أسحار رمضانيّة (٢٤)
    
 نزار حيدر
   {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}.
   لانّه أرحم الرحمين، لذلك فانّ الله تعالى يهدي عبده الى الحكمة بأية طريقة من الطرق، فتارة عن طريق فِعلُ حيوان واخرى عن طريق فِعلُ طفل يؤديه بفطرته. واخرى عن طريق الوحي، كمنامٍ يراه الانسان، كما في قصة ملك مصر، ورابعة عن طريق فعل الطبيعة، كما انتبه نيوتن الى قانون الجاذبية عندما شاهد التفاحة تسقط من الشجرة على الارض، وهكذا، خاصة عند عجز الانسان واستسلامه.
   ان الحكمة، التي تعني وضع الشيء في موضعه، اي إتقان الامور، او كما فُسّرت في المفردات (بإصابة الحق بالعلم والعقل) هي ضالّة الانسان، الا ان الناس على نوعين؛ الاول: هو الذي لا ينتبه لها حتى اذا غزته في مخدعه، لانه غافل او مشغول عنها، او انه مكابر لا يهتدي اليها خوفا من ان يقال له بانها ليست لك وإنما تعلّمتها!!! اما الثاني: فهو الذي يقتنصها بمجرد ان تمرّ من أمامه حتى اذا لم تكن تستهدفه، اي انها مرت أمامه لغيره، الا انه يصيدها بأي شكل من الأشكال فيوظّفها في نجاحات وإنجازات.
   والحكمة هي الشيء الوحيد الذي يصفه القران الكريم بالخير الكثير بقوله عز وجل {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } فهو لم يصف لا الدين ولا العقل ولا العلم ولا اي شيء آخر بالخير الكثير، لان كل ذلك لا يعني شيئا اذا لم يوظّفه المرء لوضع الشيء في موضعه، والذي يعني، في نهاية المطاف، الحكمة، والا؛ فكم من صاحب دين (مجرم)؟ وكم من صاحب علم (أحمق)؟ وكم من صاحب عقل (أهبل) او (مجنون)؟ فالمعيار، اذن، ليس كل ذلك، وإنما الحكمة والحكمة فقط، وما أحوجنا اليوم، تحديدا، الى الحكيم الذي يضع الامور في نِصابها ويتصرف بعقلانية عالية ويتخذ القرار الحكيم الذي ياخذ بنظر الاعتبار حاجة الزمان والمكان والظروف والتحديات بشكل سليم ودقيق، فيأخذ بالسفينة الى برّ الأمان وسط هذه الأمواج العاتية من الفتن؟.
   ان سبب تخبٌط السياسيين اليوم في أزمات العراق، ليس لانهم بلا دين او بلا عقل او بلا علم، فقد يمتلكون كل ذلك او بعضا منه، وَإنْ كان بعضهم كذلك فعلا لا يمتلك شيئا منها فهم {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}  إنما السبب الحقيقي هو غياب الحكمة، ولذلك لم نقرا في القران الكريم آية تتحدث عن سرّ بعثة الرسل والأنبياء الا والحكمة على راس الأهداف التي يسوقها رب العزة، فالتربية والتعليم والتزكية والتحرر من الإصر والاغلال، لا معنى لها من دون الحكمة، لانها عماد عملية صناعة الانسان التي بُعث الرسل والأنبياء من اجل تحقيقها، فنقرأ مثلا:
   {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} وغيرها من الآيات الكريمة.
   بالحكمة يصون الانسان دينه وعلمه وحريته وكرامته وأخلاقه، وبها يصون إنجازاته ووحدته ونجاحاته، وبها يوظّف خبراته وتجاربه، وبها يدير خلافاته ومشاكله، وعلى مختلف الأصعدة، وبها يدير علاقاته مع الآخرين، وبها يدير نظامه الاجتماعي والسياسي، وبمقارنة سريعة لحال المجتمعات الناجحة والاخرى الفاشلة، فسنجد ان الفارق الأساسي بينهما هو حضور او غياب الحكمة، فالمجتمع الذي تحضر فيه الحكمة والتي تُنتج الرُّشد، لهو مجتمع ناجح، والعكس هو الصحيح، فالمجتمع الفاشل هو الذي لا تجد للحكمة فيه مكان او اي معنى، فهي الغائب الأكبر فيه، فهو مجتمع متهوّر، يستعجل في إصدار الأحكام والقرارات، وانفعالي في التعامل مع بعضه البعض الاخر او مع الآخرين، لا يخرج من أزمة الا ويسقط في اخرى، ولا يحل مشكلة الا ويتورط في اخرى، فالوان الامور عنده إمّا اسود او ابيض، اما بقية ألوان الطيف الشمسي فمعدومة بالكامل، ولذلك لا يعرف معنىً للحكمة ابدا.
   وإنما نجح القادة الإنسانيون في إنجاز الأهداف التاريخية لشعوبهم، بالحكمة، ولعل من ابرز النماذج بهذا الصدد هما الماهاتما غاندي في الهند ونيسلون مانديلا في جنوب افريقيا.
   ولقد حثّ الاسلام ومدرسة اهل البيت عليهم السلام كثيرا جدا على ضرورة وأهمية ووجوب تعلّم الحكمة والأخذ بها، من دون النظر الى مصدرها ابدا، لان {الحكمة ضالة المؤمن} ولذلك أُمرنا بها كما في قول المعصوم (ع) {خذ الحكمة ولو من فم كلب عقور} امّا أمير المؤمنين (ع) فيقول {الحكمة ضالّة المؤمن، فاطلبوها ولو عند المشرك تكونوا احق بها وأهلها} وقوله {الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من اهل النفاق}.
   ولا ننسى هنا ما للتجربة من دور في صناعة الحكمة والرشد في المجتمعات، وهي على نوعين: اما تجربة ذاتية، او مكتسبة، الاولى، هي التي يصنعها المجتمع بنفسه من خلال استحضار مسيرته الذاتية، والثانية، هي التي يكتسبها المجتمع من سِيَر الشعوب والأمم الاخرى، سواء القديمة منها، التاريخية، او المعاصرة، فإذا استحضر المجتمع التجربة بنوعيها، كان حكيما ورشيدا، او انه يقترب منها، اما اذا نسيها او تناساها وتغافل عنها، فستغيب الحكمة من واقعه، ومن ادلّة هذا الغٓياب، هي انّ التاريخ يُعيدُ نفسه ويتكرر عنده بأسوأ حالاته، ولعل العراق اقرب نموذج، للاسف.
   وكل رمضان وانتم بخير.
محرر الموقع : 2014 - 07 - 21