أسحار رمضانيّة (٢٩)
    
 نزار حيدر
   {وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}.
   فليتلطّف: هي منتصف القران الكريم، وكأنها نقطة ارتكازه، تلخّص جوهر الحكمة التي بعث الله تعالى رسله وأنبيائه (ع) وخاتمهم (ص) ليعلّموها عباده فقال تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.
   وهي تعني، كما ورد في تفسير (الميزان) للعلامة الطباطبائي: إعمال اللطف والرفق وإظهاره، وكذلك: يتكلف اللطف في المعاملة، ما يعني انها ضد كل معاني العنف والشدة والقسوة والعجلة.
   ان مجتمعنا اليوم، وللاسف الشديد، مجتمع عنفي، لا يتلطّف احدٌ بأحد، لا في المنزل ولا في المدرسة ولا في محل العمل ولا في الشارع، لا في السياسة ولا في التعليم ولا في اي شيء، وللأمر أسبابٌ كثيرة ينبغي دراستها، والا فهو الى انهيار لا محالة.
   ان العنف والتطرف سِمة مجتمعنا اليوم، ما انتج كل هذا التشنج في العلاقات، وكل هذه الخصومة التي يعيشها وعلى مختلف الأصعدة، ولذلك فنحن بحاجة الى اعادة نظر وعملية تقييم شاملة في حياتنا بما يعيد للّطف والرفق مكانه في المجتمع، فعن الامام محمد الباقر (ع) انه قال {ان الله عز وجل رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف} اما أمير المؤمنين (ع) فيقول {لكل دين خلق، وخلق الإيمان الرفق} ومن دعاء لرسول الله (ص) انه قال {الرّفق راس الحكمة، اللهم مٓنْ وٓلِيٓ شيئاً من امور أمّتي فٓرٓفٓقٓ بهم فارْفُق به، ومن شقّ عليهم فاشقُق عليه}.
   وبرأيي، فإننا نحتاجها، اكثر ما نحتاجها، في المجالات الأربعة التالية:
   اولا؛ التربية، فالتلطّف مع الأولاد، في تربيتهم وتعليمهم، يساعدهم على بناء شخصيتهم بشكل سليم وصحيح، والعكس هو الصحيح، فالتعامل معهم بعنف وقسوة ينتج شخصية مأزومة وعنفيّة، وإنّ ما نراه اليوم في شخصية الجيل الجديد الذي نجحت جماعات العنف والإرهاب في غسل دماغه لتحوله الى دواب تفجر نفسها في الأبرياء، سببه حالة الكبت والعنف والقسوة التي تربّت عليها منذ الطفولة، وكأنها تجد الان في ممارسة العنف محاكاة طبيعية لتلك التربية السيئة التي تلقتها على يد الوالدين.
   يجب ان تتغيّر طريقة التربية في العائلة وفي المدرسة وفي النادي الرياضي وفي الهيئات المدنية كالمساجد والحسينيات، وفي كل مؤسسات المجتمع، بما يساهم في صياغة الشخصية السوية الهادئة والموزونة، ولعل اول ما يجب ان نهتم به هو ثقافة الإصغاء للجيل الجديد لنساعده على التعبير عن نفسه، لنفهم مشاكله وتطلعاته ورغباته بشكل صحيح، اما الرد العنيف ورفض الإصغاء من قبل الوالدين، في العائلة مثلا، فانه سيُنتج شخصية عنفية مأزومة بلا شك.
   ثانيا؛ العلاقات العامة، علاقات بعضنا مع البعض الاخر، هي الاخرى يجب ان نبنيها على اساس التلطّف والرفق والتفاهم، فالعلاقات التي يحكمها العنف سواء في اللسان او في غيره، لا تكون مستقرة ابدا، فهي الاخرى ستكون علاقات مأزومة وعنفية، تتحول الى حرب (دينية) او (طائفية) او (إثنية) في اقرب فرصة سانحة، خاصة وان هناك من ينفخ في نارها لتستعمر أوارها.
   ثالثا؛ الحوار، الامر الذي يحتاج الى ان نتعلم فنّه وقوانينه وقواعده، فلماذا يتحول الحوار عندنا الى خصام حتى اذا كان على أتفه الامور وأبسطها؟ وحتى اذا كان بين اقرب زميلين او صديقين، او ربما بين اخوين؟ لماذا تعلو أصواتنا ونحن نتحاور على أتفه الامور؟ لماذا يتحوّل اي حوار بيننا الى اتهامات وافتراءات وطعون بالولاءات وتشكيك بالنوايا وتسقيط ونشر الغسيل القذر؟ والغريب في الامر اننا نرى في احيان كثيرة ان المتحاورين متفقون فيما يتحاورون عليه، الا ان طريقتهم العنفيّة في الحوار تبعدهم عن اي مساحة مشتركة هم اقرب اليها من حبل الوريد.
   ان الحوار الهادئ وتبادل وجهات النظر بلطف ورفق يجنّبنا الكثير من الخصومات، ويساعدنا في التوصّل الى تفاهمات ونتائج مطلوبة في كل ظرف ولكل مرحلة، كما انه يقرب وجهات النظر فيما بيننا، ما يساعدنا على التعاون اكثر من التباغض والتباعد.
   لقد سمع الامام أمير المؤمنين (ع) مرة أصحابه في معركة صفين يسبّون اهل الشام، فنهاهم عن ذلك قائلا:
   {إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، وَلكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ، وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ}.
   رابعا؛ وفي الولاء، فانا لا أقول ان علينا ان لا نحب او لا نبغض هذا الزعيم او ذاك السياسي او ذلك القائد، ابدا، فلكل امرئ الحق في ان يتبنى ما يشاء ويوالي من يشاء من هؤلاء، ولكن حتى للحب والبغض حدودا يجب ان لا يتجاوزها الانسان، فيقع في المحذور ويبدأ بعبادة الشخصية وصناعة الطاغوت، ولذلك قال أمير المؤمنين (ع) {أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا}.
   ان الحب والبغض يجب ان يخضع للّطف والرفق، فلماذا يحق لي ان انتظر من الآخرين احترام القائد الضرورة الذي اعتقد به ولكن ليس لاحد البتة الحق في ان ينتظر الامر نفسه للقائد الضرورة الذي يؤمن به؟ لماذا انتظر من الآخرين ان يحفظوا الألقاب للقائد الضرورة الذي اعتقد به، ولكنني عندما اتكلم عن القائد الضرورة للآخرين ابذل كل جهدي لتسفيهه وإظهار كل ما من شأنه ان يقلل من شأنه وقيمته ومكانته، وينتقص من شخصيته؟.
   وكل رمضان وانتم بخير.
محرر الموقع : 2014 - 07 - 27