انتصار المقاومة في غزة يقلب المعادلة مع إسرائيل...
    

بقلم: مصطفى قطبي

فرض الشعب الفلسطيني بانتصاره الأخير على العدو الإسرائيلي واقعاً جديداً في الأراضي المحتلة، يرتكز على معادلات وتوازنات تحكمها قواعد لعبة مختلفة وبأدوات جديدة ومتجددة، لم يعهدها من قبل اللاعب الاسرائيلي الذي كان المتحكم الرئيسي بقواعد اللعبة وشروطها، التي يفصلها على قياس طموحاته الاحتلالية التي تغطيها وتؤمنها مظلته العسكرية المتخمة بأعتى وأحدث وأقذر أسلحة القتل والموت والدمار، والتي كانت تشكل إلى ما قبل انتصار غزة الورقة الحمراء الأكثر ربحاً لدى الكيان الصهيوني التي تدر عليه مزيداً من الإرهاب والإجرام والدموية.‏

وعليه فإن (الردع مقابل الردع)... هي المعادلة الأبرز التي خلقها انتصار غزة بعد أن أسقطت إرادة المقاومة أسطورة التفوق العسكري الصهيوني التي كانت تشكل بالنسبة لإسرائيل القاعدة الأساسية للانقضاض من جهة على الشعب الفلسطيني وقتله وإرهابه، وللانطلاق من جهة أخرى لشن كل حروبها وغزواتها الاستعمارية والاحتلالية في المنطقة، وهو الأمر الذي سيشكل في المستقبل كإحدى ثمار تلك المعادلة كابحاً و مقيداً لكل التصرفات والسياسات الإسرائيلية المستقبلية التكتيكية منها والاستراتيجية سواء على الصعيد الداخلي ضمن حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة أو على الصعيد الخارجي ضمن الحدود الإقليمية نظراً لذلك الارتباط العضوي الوثيق بين قوى المقاومة على مستوى المنطقة ككل...

إذاً هناك أمر آخر مختلف حققته المقاومة من المواجهة العنيفة وغير المتكافئة مع دولة الاحتلال يقول العارفون إنه يتلخص في إقرارها بأن توازناً جديداً قد تم فرضه في ضوء الحجم الكبير والفعالية المتطورة لصواريخ الفصائل الفلسطينية. فالقبة الحديدية لم تمنع وصول الصواريخ لأهدافها كما أنها فشلت في الحد من مخاوف المستوطنين الذين أرغم مليون منهم على المبيت في الملاجئ لعدة ليال.

وهذا يؤكد مقولة إن الواقع الجديد الذي فرضه الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة ليس إلا امتداداً وجزءاً لا يتجزأ من ذلك الواقع الذي فرضته القوى المقاومة في المنطقة طيلة السنوات الماضية وتحديداً خلال العقد الماضي الذي استهلته القوى المقاومة بانتصار تاريخي على الكيان الصهيوني الذي أعلن في العام 2000 انسحابه من الجنوب اللبناني منهزماً ومندحراً تحت ضربات المقاومة اللبنانية التي ألحقت به في العام 2006 هزيمة منكرة إثر عدوانه على الجنوب اللبناني.
إن غزة التي انتصر فيها اليوم الدم على السيف تصدت للعدوان الهمجي الصهيوني انطلاقاً من عقيدة ثابتة وإرادة قوية فصمدت وصبرت وضحت... استندت إلى إرادة شعبية بلورتها رؤية ثورية واضحة أنضجتها التجارب، بهدف الوصول بالشعب الفلسطيني إلى الدفاع عن نفسه في الحدود الدنيا لممارسة هذا الحق، وللتعبير عن التعلق بالأرض وحق العودة وتقرير المصير بحرية تامة فوق التراب الفلسطيني المحرر، ونيل الحرية بعد كل هذه العقود من المعاناة والتضحيات والشكوى التي لا يكترث بها أحد، واستندت غزة إلى خيار المقاومة بوصفه سبيلاً للردع ومدخلاً للتحرير، ولم تسلك طريق التنازلات والمواقف الضبابية والمناورات الهزلية التي تتصل بحقوق أساسية للشعب الفلسطيني على رأسها حق العودة.
وقد فرض هذا الخيار ذاته و شروطه ومناخه وأدواته على المقاومين والحاضنة الشعبية الغزاوية بالدرجة الأولى، فكان تصميم المقاتلين على امتلاك السلاح وتطويره وتعزيز القدرات والعقيدة القتالية وإيجاد الحاضنة الشعبية الفلسطينية للمقاومة، والسعي المستمر لتوسيع نطاق هذه الحاضنة وتحصينها بحاضنة عربية وإسلامية تلتقي معها استراتيجياً في الخيار والأهداف والوسائل وفي ضرورة امتلاك القوة لمواجهة العدوان بقوة ردع توقفه عند حدود وتحوله من حالة مد إلى حالة جزر لتتحول هي من مواقع الدفاع إلى مواقع الهجوم، لأن استرداد الأرض والحق وتحقيق حلم العودة وإنهاء مأساة الشعب الفلسطيني لا يتم إلا بدحر العنصرية والإرهاب والاحتلال...
ولم يضع المقاومون في غزة وقتاً بل استثمروا في الوقت والجهد والمعرفة والعلم والتقنية في حدود ما يستطيعون عبر حصار خانق وعدوان متجدد، فامتلكوا أنواعاً من الصواريخ وقدرات على تصنيع بعضها وتطويره، وتدربوا على العمل العسكري المناسب الذي لا بد من امتلاك خبرة في مجالاته لمواجهة قاعدة عسكرية عنصرية متقدمة هي الكيان الصهيوني برمته... ولم يكن ذلك سهلاً، ولم يكن ممكناً لولا قوى عربية وإسلامية استجابت لهذه الرغبة باقتناع تام بالخيارات والوسائل، ولقد أشارت عدة فصائل مقاومة، إلى مساعدات مهمة في هذا المجال قدمت من أطراف عربية ودول منها إيران وسورية في خطاب الاحتفال بنصر غزة وتوقيع اتفاق الهدنة.
وهذا يثبت أن أطراف المقاومة من سورية إلى المقاومة الفلسطينية واللبنانية هي التي شكلت القوة التي جعلت قطاع غزة بموجب ما يعترف البروفيسور (نافون) يفرض الهزيمة على إسرائيل خلال الحروب الثلاثة التي شنتها على قطاع غزة في عام 2008 و2012 و2014، فلولا الدعم الذي قدمته سورية وإيران للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة منذ انسحاب شارون عام 2005 لما تمكنت المقاومة في القطاع من تفتيت قدرة الردع الإسرائيلية وإطلاق أكثر من 12000 صاروخ وهذا ما يدل على أن جبهة الحرب والمقاومة ضد إسرائيل ما تزال قادرة على تحقيق انتصارات ومكاسب ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية رغم كل ما تتعرض له سورية من حصار وحرب داخلية بل إن ما تتعرض له يعود إلى هذا الدور الذي سيزداد تأثيراً كلما حققت المقاومة في لبنان وفي فلسطين المزيد من الانتصارات.

وتجب الإشارة إلى أنه من غير الموضوعي قراءة وتقويم العدوان الإسرائيلي على غزة في إطار الربح والخسارة من معطى القتلى والجرحى والتدمير الذي حصل، فهذه تكاد تصب في مصلحة العدو الصهيوني، ولكن القراءة المطلوبة والمنطقية هي تلك التي تأخذ بالاعتبار موازين القوى غير المتكافئة بين الطرفين، والحاصل السياسي والعسكري الذي حققه كل من  الطرفين، بالقياس على ذلك وهنا يرى الملاحظ السياسي أن المحصلة تصب في مصلحة المقاومة الفلسطينية، ومن دعمها ووقف إلى جانبها، وفي المقدمة من أولئك جميعاً أبناء غزة الذين واجهوا آلة العدوان الجبارة بإرادة وإيمان لا يعرف الخوف أو التردد.‏

إن الانتصار الذي تحقق في غزة يمكن لحظه من خلال مسألتين  أساسيتين، أولاهما: أن العدو الصهيوني وحلفاءه هم الذين سعَوا لوقف إطلاق النار بدليل الاستنفار السياسي الذي لفهم وبخاصة وزير الخارجية الأميركية التي أسرع في الحضور إلى المنطقة، وكان ذلك خارج جدول أعماله ليلتقي المسؤولين الصهاينة ثم يحط الرحال في القاهرة، ليقيم ورشة أزمة بدت مهمتها الأساسية احتواء ما حدث وإنقاذ الكيان الصهيوني من هزيمة محققة والسعي لسرقة ذلك الانتصار بالحديث عن مفاوضات وتبادل رسائل بين الطرفين، لتحقيق تفاهم يتعلق بوقف إطلاق النار وهو ما حصل، والأمر الآخر هو إحجام قوات العدو عن القيام بعملية برية هدد بها قادة الكيان وتم استدعاء قوات الاحتياط توطئة لها.‏
إن النقطة المهمة والأساسية من وجهة نظرنا، هي التي سعى العدو الصهيوني للوقوف عليها وتتلخص في: هل من تبدل في البيئة الاستراتيجية في المنطقة بعدما حدث من تحولات خلال الثلاث سنوات الماضية والحديث عن ربيع عربي؟

الأمر الآخر. هل من تغير في مواقف المنظومة الاستراتيجية المقاومة بعد الذي حصل في سورية وما جرى من استهداف لإيران وحصار عليها وما تشهده الساحة اللبنانية من تداعيات نتيجة ذلك؟

باعتقادنا، وبعد الذي جرى وبتحليل المواقف بعيداً عن العصاب السياسي والأيديولوجي يمكننا القول: إن العدو الصهيوني وحلفاءه الأمريكيين توصلوا إلى جملة خلاصات يمكن الإضاءة عليها بعجالة.

أولها: أن لا تبدل أو تغير في الموقف المصري بالمعنى الاستراتيجي، فمصر لعبت دور الوسيط فقط دون أن تتحول إلى طرف داعم للمقاومة أو منحازة إليها وهو نفس الدور الحاصل عند العدوان على غزة قبل ست سنوات، ولعل التغير الذي جرى هو في خط البريد، فبدل أن تنقل القيادة المصرية الرسائل من إسرائيل إلى المقاومة أخذت تنقلها من المقاومة إلى إسرائيل...؟!

الأمر الآخر: وهو الأهم يتمثل في دعم واحتضان وتماسك جبهة المقاومة ومنظومتها الاستراتيجية العابرة الحدود، حيث استمرت مواقف تلك القوى على ثباتها ومبدئها في دعمها المقاومة الفلسطينية في غزة بكل الوسائل المادية والعسكرية والسياسية وهو ما أشار إليه وعبرَّ عنه بعض قادة المقاومة الميدانيين والسياسيين عبر وسائل الإعلام أثناء الحرب على غزة وبعد التوصل إلى التفاهم المتعلق بوقف إطلاق النار، ولعل ثبات المواقف هذا، هو ما شكل صدمة قوية لقادة الكيان وحلفائه الإقليميين والدوليين الذين اعتقدوا أنّ فجوة وخلافاً وتصدعاً وضعفاً سيصيب تلك المنظومة المقاومة بعد الذي جرى ويجري في المنطقة من أحداث وتحولات دراماتيكية سَعَوا وجهدوا وتآمروا  كي تصب في مصلحتهم!

لقد أثبت العدوان على غزةَ وكشف محدوديةَ قدراتِ الكيان الصهيوني وحاجتَه الدائمة إلى حماية خارجية وكذب ادعاءاته امتلاك قدرات الردع الاستراتيجي التي يهدد بها بعض دول المنطقة، فامتلاك السلاح شيء والقدرة على استخدامه وتحمل نتائج ذلك شيء آخر، ولعل ذلك هو الدرس الأهم الذي يمكن استنتاجه من خلاصات ذلك العدوان الهمجي، وهو ما يجب أخذه في الاعتبار عند صانعي السياسات أو منفذيها في منطقتنا الذين مازال بعضهم مسكوناً بوهمِ أن الكيان الصهيوني قوة لا تقهر.‏

فالعدوان الذي بدأته \'\'إسرائيل\'\' بدعم أميركي عام 1967 أوشك أن ينتهي بتحقيق أهم أهدافه ومن هنا ستكون المعركة (أي معركة) تخوضها دولة الاحتلال شرسة وقاسية لكن الأهم أنها ستواجه أي عقبة باستخدام كل ما تملك من وسائل الردع، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إن العد التنازلي لحقبة جديدة في المنطقة قد بدأ وعلى كل من يعنيهم الأمر الأخذ بأسباب الحيطة والحذر، أما الحال الفلسطيني فربما يلزمه ترميم يشبه إعمار غزة المزمن.

إن وحدة الشعب الفلسطيني مطلب رئيسي للفلسطينيين والعرب، وهو مطلب محفوف بالكثير من الأسئلة والعقبات التي تتصل بجوهر قضية فلسطين وبالسياسات والخيارات المؤدية إلى السير في نهج مناسب لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني كاملة، وليس لبعض تلك الأهداف المتصلة ببعض الأرض وبعض القدس وبعض الحقوق... فنحن في فلسطين شعب ولسنا بعض شعب، ونستحق ما تستحقه الشعوب، وقد قدمنا الأدلة والتضحيات وكل ما يؤهلنا للوجود المستقل الحر الكريم في دولتنا ذات السيادة التامة التي لا نفرق فيها بين شخص وشخص على أساس عنصري أو ديني أو عرقي أو طائفي من أي نوع، كما يفعل العنصريون الصهاينة اليوم بشعبنا وفوق أرضنا؟!

إن غزة تستحق أفضل مما حققت، وما حققته كبير، وتستحق أن يقف معها كل شريف في فلسطين والوطن العربي والعالم الإسلامي وبلدان عدم الانحياز وكل من لديهم قيم ورؤى أخلاقية وإنسانية في أنحاء العالم كله.. وبهذه المناسبة أتوجه بالتحية لكل صغير وكبير في غزة، وللشهداء بطلب الرحمة وعظيم الاحترام، وللجرحى بالتمني الصادق بالشفاء العاجل... وإنها لثورة أحرار تجود بالدم، وتسلك درب الجهاد طالبة النصر أو الشهادة... وعلى هذه الطريق ومن أجل هذه الأهداف يستحق المرء أن يسمى حراً ومحرراً ومجاهداً.

محرر الموقع : 2014 - 08 - 31