السيناريوهات المستقبلية لروسيا… استمرار بوتين أم توسع القومية الروسية
    

 

 

 

كان الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا في فبراير 2022 قد تحدى تصور العديد من الدول الأوروبية لروسيا. ومع ذلك، فإن أوروبا والعالم الغربي يعكفون على تقييم كيفية فهم سلوك روسيا بشكل أفضل مما كان عليه في الماضي وتعديل علاقاتهم وسياساتهم فيما يتعلق بروسيا من خلال فهم أفضل للوضع الراهن وتوقع لمستقبلها.

إلا أن تصورات اليوم لروسيا تشكل نمط علاقات الغد. تخيل روسيا في عام 2030. هل ستبدو وكأنها إمبراطورية؟ هل ستكون ديمقراطية؟ وهل ستكون روسيا الاتحادية موجودة أصلا رغم اتساعها، فضلا عن وجود جمهوريات تتمتع بالحكم الذاتي؟

وبينما تواصل روسيا غزوها غير العقلاني لأوكرانيا، فإن الأسئلة التي تعقب ذلك لم تكن ذات أهمية كما هي الايوم. وبينما لا تزال القضايا المتعلقة بالتطورات المستقبلية في أوكرانيا تهيمن على الخطابات الأخرى في واشنطن وبروكسل، يتم إيلاء اهتمام أقل لما يحدث في موسكو وفي جميع أنحاء الاتحاد الروسي. حتى بعد الانقلاب الفاشل الذي قام به يفغيني بريجوزين؛ وأوقف زعيم الميليشيا السابق فاغنر إلى حد كبير المناقشات الجادة حول مستقبل روسيا المحتمل في العام الماضي.

استمرار حياة بوتين السياسية

بعد الغزو الروسي الضخم لأوكرانيا في عام 2022 والانتكاسات العديدة التي واجهتها روسيا، سارع العديد من المراقبين في الغرب إلى التنبؤ بسقوط بوتين في المستقبل. وكان هذا التوقع مفهوما، لأنه في تاريخ الحروب الروسية، من الحرب اليابانية إلى الحرب العالمية الأولى وغزو أفغانستان وانسحابها؛ أقول اندلعت قبل فترة من حدوث تغييرات سياسية مهمة في موسكو. بالإضافة إلى ذلك، يمكن اعتبار العقوبات الاقتصادية العديدة التي فرضت على روسيا في العامين الأخيرين بمثابة ارضية لوجود عدم الرضا حتى لدى الطبقة الحاكمة في روسيا، كما تعتبر أحد أسباب التغيرات السياسية في مستقبل روسيا.

مئات الآلاف من الجنود الروس القتلى، وعدم تحقيق الأهداف الاستراتيجية الروسية في أوكرانيا، والاقتصاد الذي يعتمد على النفط بشكل لا يصد، الذي يتجه نحو حكم الأقلية، واحتمال الحكم العسكري، إضافة إلى أن روسيا ترى نفوذها الجيوسياسي يتقلص من القوقاز إلى آسيا الوسطى؛ كل هذا يروي الثقب الأسود الجيوسياسي لأوكرانيا.

وفاة أليكسي نافالي 

مع وفاة أليكسي نافالي؛ أكبر معارض لحكومة بوتين، والذي كان بالطبع أقسى من بوتين في بعض وجهات النظر السياسية تجاه أوكرانيا، شهدنا مظاهرات معارضة ردا على وفاة نافالي. لكن الروس، الذين يعيشون في مزيج من اللامبالاة والخوف من حرب انتقامية في أوكرانيا، ما زالوا يظهرون دعما إيجابيا لبوتين واستمرار الحرب في أوكرانيا.

ومع ذلك، في الكرملين، يواصل بوتين اتباع نفس الاستراتيجيات كما كان من قبل، أي سجن أو نفي شخصيات معارضة، وطمس بعض وسائل الإعلام المعارضة وجمع المزيد من أدوات السلطة لنفسه.

وحتى مع تفكك المؤسسة العسكرية الروسية في أوكرانيا وشبح تجدد الصراع الذي يلوح في الأفق في جنوب أوكرانيا، فإن اندفاعة بوتين نحو البقاء السياسي مستمرة بسرعة كبيرة، يعزز قبضته على السلطة المحلية.

كان من المفترض أن يمنع التحرك نحو أوكرانيا الناتو من التقدم شرقا، لكن اليوم، بالإضافة إلى انضمام فنلندا إلى الناتو، سنرى في المستقبل القريب انضمام السويد رسميا إلى معاهدة الناتو، والسؤال الذي يطرحه الكثير من الشعب والمحللين الروس ويدور في أذهان محللي السياسة الخارجية الروسية، هو ما هي نتائج حرب أوكرانيا وماذا حققت روسيا في أوكرانيا حتى الآن؟

علاوة على ذلك، وبينما تستمر الحرب في أوكرانيا، ينتظر بوتين الانتخابات الرئاسية الأميركية لتغيير رهانه بشأن أوكرانيا. وخاصة إذا عاد دونالد ترامب، في يناير 2025، إلى السلطة، والذي رفض دعم أوكرانيا ضد روسيا، وقطع المساعدات الأمريكية للبلاد، مما سمح لبوتين بالسيطرة على المستعمرات الروسية السابقة كما وصف انهيار الاتحاد السوفيتي بانه كارثة جيوبولوتيكية.

وفي المجال الأمني الأوروبي، يحاول صناع القرار السياسي في الغرب زيادة القدرة العملياتية لحلف شمال الأطلسي في البلدان الشريكة في أوروبا الشرقية، فضلا عن تعزيز العلاقات الأمنية القائمة على حلف شمال الأطلسي مع الشركاء من خارج المنظمة مثل البوسنة وكوسوفو. وفي أوكرانيا يتطلب هذا المسار السريع نحو عضوية الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي أثير عدة مرات من قبل زعماء الاتحاد الأوروبي.

ولكن نظرا للعوامل الداخلية التي تعاني منها روسيا، بما في ذلك عدم التراجع الداخلي، حتى بعد أن تكبدت روسيا خسائر أكبر من أي شيء آخر منذ الحرب العالمية الثانية، فليس هناك من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أن بوتين لن يتمكن في المستقبل المنظور من مواصلة حياته السياسية.

مما لا شك فيه أنه في ظل غياب هزيمة عسكرية واضحة لروسيا في أوكرانيا، وبينما أظهر الاقتصاد الروسي مقاومة واضحة، لا يبدو أن حياة بوتين السياسية ستواجه تحديا كبيرا، واستراتيجية بوتين التي تنتظر مرونة الغرب ولعلها المسار الأكثر ترجيحا لاستمرار الحرب في أوكرانيا.

هل تتوسع القومية الروسية؟

وخلافا لآخر مرة شهدت فيها روسيا انقلابا يمينيا متطرفا، في عام 1991 بعد المحاولة الفاشلة التي قام بها جهاز الاستخبارات السوفييتي للإطاحة بميخائيل جورباتشوف، هناك مدرسة فكرية متنامية تريد نظاما قوميا ليحل محل بوتين. والواقع أن مثل هذا السيناريو لا يمكن أن يكون موضع رفض بعد ما قام به يفغيني بريجوزين.

في يونيو 2023، واجه بوتين أكبر تهديد شهده على الإطلاق لقبضته على السلطة. سيطر أعضاء شركة فاغنر العسكرية الخاصة، بقيادة يفغيني بريجوزين، فعليا على مدينة روستوف بجنوب روسيا وساروا مئات الكيلومترات باتجاه موسكو. ورغم أن القوات ذاتها لم تصل إلى الكرملين قط، ورغم أن قدرا كبيرا من الالتباس ما زال قائما بشأن الهدف النهائي للانتفاضة، فقد أظهرت هذه الانتفاضة أن قاعدة دعم بوتين ضعيفة. أي أنه حتى مع تحرك قوات فاغنر شمالا، لم يكن سوى عدد قليل من الروس على استعداد للوقوف في طريقهم.

بمعنى آخر، ربما لم يكن الإمبراطور عاريا، لكنه ظهر بالتأكيد بملابس أقل مما كان يُعتقد سابقا. وأصبح هذا الصمت الداعم لبوتين أكثر وضوحا في تصريحات بريجوزين السابقة حول الحرب في أوكرانيا، والتي لم تنتقد القيادة العسكرية الروسية فحسب، بل منطق الغزو برمته في المقام الأول.

ولكن حتى مع وفاة بريجوجين، فإن ضحالة الدعم الذي يحظى به بوتين ليس بالأمر الذي يمكن نسيانه بسهولة. علاوة على ذلك، ومع أخطاء بوتين الاستراتيجية الواضحة على نحو متزايد في أوكرانيا وارتفاع عدد القتلى، ليس هناك من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أنه سيكون قادرا على حشد الدعم في أي وقت قريب.

كل هذا يشكل وصفة لنجاح القوميين الروس الذين أصبحوا على نحو متزايد صريحين في انتقادهم للقيادة الروسية الحالية، بوتين.

والحقيقة أننا إذا تصورنا سيناريو حيث يصبح بوتين محاصرا بسبب إخفاقاته المستمرة في أوكرانيا، فسوف نجد أن الدعم الداخلي لبوتين لا يتزايد، بل ومن المرجح أن ينهار. ففي نهاية المطاف، يُعَد بوتين المشتبه به الرئيس والشخص الذي راهن على مستقبل روسيا بشن حرب.

وفي الوقت نفسه، بدأ الهيكل السياسي في روسيا في التصدع. إن لجان المحاربين القدامى الروس لا تقدم الدعم لبوتين، ويتحول الشباب الروسي العاطل عن العمل على نحو متزايد إلى الشعارات القومية، ويتحول الساسة المحليون غير القادرين على دفع تكاليف الخدمات الأساسية إلى الشعبوية القومية من أجل البقاء في السلطة.

وخلافا لآخر مرة شهدت فيها روسيا انقلابا يمينيا متطرفا، في عام 1991 بعد المحاولة الفاشلة التي قام بها جهاز الاستخبارات السوفييتي للإطاحة بميخائيل جورباتشوف، هناك مدرسة فكرية متنامية تتمنى ظهور نظام قومي ليحل محل بوتي ولهذا لم يعد من الممكن رفض هذا السيناريو بعدما قام به بريجوجين.

ولكن الفكر القومي، إذا نجح، فسوف تحل في محل بوتين، فاشية روسية صريحة تقوم على إحياء “الأمة الروسية الأسطورية” واستهداف كل الأعداء، في الداخل والخارج. ويزعم هؤلاء القوميون أن روسيا سوف تنهض مرة أخرى، ويزعمون أن روسيا قادرة على إعادة مكانتها الصحيحة وإعادة ذوي العرق الروسي إلى مجدهم.

وصفات السياسة المحلية

وكما هي الحال في السيناريو الذي يظل فيه بوتين في السلطة، فإن ظهور نظام قومي يميني متطرف في روسيا يبدو مرجحا للغاية. إن تمديد العقوبات واستمرارها، والحفاظ على سقف أسعار صادرات النفط والغاز الروسية، ومصادرة أصول البنك المركزي الروسي كوسيلة لتمويل إعادة إعمار أوكرانيا، وزيادة قدرة تقدم حلف شمال الأطلسي، كلها عوامل من المرجح أن تشكل أسباب عدم الرضا عن بوتين، فضلا عن الشعور المتزايد بالقومية في روسيا.

ونظرا لنقص الموارد المتاحة للجيش الروسي، فإن النظام القومي الناشئ سوف يفضل، على الأقل في المدى القصير، إنهاء الصراع في أوكرانيا دون امتلاك الشرعية السياسية اللازمة للدعوة إلى التعبئة الوطنية، في حين يعزو بوتين الإخفاقات الاستراتيجية في أوكرانيا ووفقا له فإن مثل هذا النظام القومي قد يتجنب تصعيد التوترات مع أوكرانيا والغرب.

ومثل هذا التوقف من شأنه أن يوفر فرصة كبيرة للغرب لتوسيع لعبته الكبيرة، وخاصة في دعم أوكرانيا. ومثل هذا السيناريو يوفر للغرب المزيد من الفرص لإعادة بناء وتعزيز العلاقات مع جيران روسيا، وخاصة البلدان التي استهدفتها الخطابة القومية الروسية. فمن جورجيا وأرمينيا إلى كازاخستان، يستطيع الغرب أن يركز جهوده الدبلوماسية، وإلى حد ما، جهوده الأمنية على تعزيز العلاقات مع هذه البلدان.

ولكن تجدر الإشارة إلى أن كل نظام قومي لديه نفس الخطوط والنظريات الجيوسياسية مثل بوتين، بل وربما يتصرف بشكل أكثر تطرفا من بوتين في بعض الحالات. خاصة عندما تقترب الحرب في أوكرانيا أو العلاقة مع الغرب من طريق مسدود مظلم.

أفق السياسة الداخلية

وبالنظر إلى هزيمة بريغوجين وعواقبها، وخاصة وفاته المذهلة، فإن احتمال حدوث مثل هذا الانقلاب اليميني له جانبان، الأول هو أن العديد من القوميين اليمينيين المتطرفين في روسيا قد يكونون خائفين ويتراجعون بعد وفاة بريغوجين، ولكن من ناحية أخرى، ولا ينبغي للعديد من هؤلاء القوميين المتطرفين في السلطة أن يكرروا خطأ بريغوجين بالتراجع وعدم استكمال التمرد أو الانقلاب وأن يعتبروا سبب فشل بريغوجين وموته هو تراجعه وتوقفه.

وباستثناء الأحداث غير المتوقعة، فإن السيناريو الثاني الأكثر احتمالا يظل قائما في أي أفق زمني محدد، ومع تزايد الخسائر الروسية في أوكرانيا، فإن احتمال حدوث مثل هذا السيناريو يزداد بمرور الوقت.

وأخيرا، مع استمرار روسيا في الفشل أو المماطلة في أوكرانيا، فإن احتمال وقوع سيناريو انقلاب قومي مرتفع للغاية، وهذه هي رواية الفشل التي سيستخدمها القوميون ضد بوتين.

المصدر: موقع جماران

 

 

 

 

محرر الموقع : 2024 - 03 - 06