ألشّهيد ألصّدر؛ فقيهُ ألفقهاء و فيلسوفِ ألفلاسفة – ألحلقة ألسّابعة
    

كيف واجه آلشّهيد ألحرب ألخفيّة و آلعلنيّة من آلجّميع؟

أشرنا في آلحلقة (ألسّادسة) لقضية مصيريّة محوريّة ميّزتْ ألمرجعيّة (الحقيقية) عن ألمرجعيّة (التقليديّة) بشأن (ألأمر بآلمعروف و النّهي عن المنكر) و قضايا (آلحسبة), إنطلاقاً من آلخطاب القرآني الذي أحزنَ الرّسول(ص) بعد ما بيّن الباري تعالى له بوضوح؛ تكليفهُ و واجباتهُ كقائد و مرجع في آلأمّة عبر آلآية المباركة ألصّريحة:
[و إستقم كما أمرت و مَنْ تابَ معك](1)!

تلك الآية و بحسب ألرّوايات ألمتواترة للفريقين أثقلت كاهل آلعمل و آلتبليغ على رسول الله(ص), و حزن كثيراً عند نزولها, بل تقول الرّوايات أنّه كان يبكي بسببها في أيّامه آلأخيرة, خصوصاً بعد حادثة (آلغدير) و بروز بوادر الفتنة و المؤآمرة على ولاية الأسلام من خلال بعض المؤشرات آلتي أثمرت تحت سقف (سقيفة بني ساعدة),  ثمّ أعقبها نزول آية أخرى بجانب ذلك بيّنت هدف و فلسفة آلرّسالة الأسلاميّة كختام لتلك المسألة القدريّة(2) و آلنّاس من حوله يسألونه و يلحّون بآلسؤآل عن سبب حزنه(ص) و بكائه, حتّى ظنّ بعضهم أنّه يُريد أجراً مقابل تبليغه للرّسالة الأسلاميّة و إنقاذهم من براثن الجاهلية, فيُجيبهم بحديث متواتر:

[شيّبتني سورة هود و صالح], لعلاقة تلك آلآية بقصّة(هود و صالح) وعدم هداية قومهما, و بآلتالي وجوب آلعمل المضاعف و آلدّعوة آلمكثفة لله و (آلأمر بآلمعروف و النّهي عن المنكر) لهداية و إستقامة الناس, بإعتبار مسؤولية هدايتهم ترتبط بآلرّسول نفسه قبل غيره في نهاية المطاف, و هذا الأمر العظيم يحتاج إلى مُقدّمات و فنون و علوم و جهاد متواصل للدّعوة لله لإقامة الحدود و تحقيق العدالة في ظل الحكومة الأسلامية!

و هداية آلناس و تحصين المجتمع من آلفساد ليس فقط يبدو مستحيلاً .. بل عجز عنه بآلفعل  على أرض الواقع جميع الأنبياء و المرسلين و آلمصلحين الذين وصل عددهم لأكثر من 124 ألف نبيّ و مرسل بجانب آلاف المصلحين و أضعافهم من الأوصياء و آلأصحاب و المُقرّبين, و لذلك لم يخطأ الصدر ألأوّل – و حاشاه – عندما علّق على إنتصار الثورة الأسلامية في إيران بآلقول: (لقد حقّقت تلك الثورة حلم و آمال جميع الأنبياء و المرسلين)!

و بما إنّ الصّالحين من مراجع آلدّين ألحقيقيين كآلصّدر و الخميني تشملهم تلك الآية, لذلك آمنوا بأنّ ذلك الواجب آلأكبر المقدس يمتد إليهم تباعاً لأقامة الحكومة الأسلاميّة تحت ظل ولاية المعصوم أو مَنْ ينوب عنه عليه السلام في زمن الغيبة الكبرى و هو (الولي الفقيه) الذي يتصدّى للأمر من بين مجموعة الفقهاء ألأحياء في كلّ زمن!

لذلك رأينا عدم قرار الفقهاء المؤمنين و جهادهم الدائم و عملهم الدّؤوب في هذا الطريق على مدار القرون ضد الطغاة و الحاكمين, و هذه ليست مسألة عادية و إنما تتعلق بصلب العقيدة الأسلامية لأن (العالم بلا عمل كآلشّجر بلا ثمر)(3), و هكذا كانت تلك (آلآية) تهيج مواضع الفقهاء الحقيقيين الصالحين كما هيّجت مواجع آلأئمة (ع) و رسول الله(ص) عند تذكّرهم بقصّة (هود و صالح) المعروفة(4) كمثل أعلى أمامهم في التأريخ و كتكليف شرّعي, خصوصاً و إنّ عرب الجاهليّة لم يستجيبوا لدعوة الرّسول(ص) كاملةً, كما الشعب العراقي الذي لم يستجيب للصدر الأول, بل حاربوه على كافة الأصعدة, كما خانت قريش عهودها مع رسول الله قبل و أثناء و بعد يوم الغدير الذي لو كان واقعاً لما إنحرفت الأمة الأسلامية اليوم و وصلت إلى ما وصلت إليه!

و تكرّرت تلك الحالة ألمأساوية عينها مع (آلصّدر الأوّل) و أخته المظلومة عندما لم تساندهم جماهير الأمّة و بقيا وحيدين في وجه البعث اللئيم بعد خيانة القوم المحيطين بهم و هو يُكرّر في أوساطهم قول أستاذه الخميني الكبير الذي طالما ألقى عليه و على مسامع علماء و أهل النجف محاضرات حول الحكومة الأسلامية و فلسفة و معنى تلك الأية ألمصيرية؛ (و إستقم كما أمرت و من تاب معك) خلال سني السّتينات و السّبعينات!

و لأن الأمر يحتاج إلى الجهاد و التضحية و العطاء و آلجود بآلمال و النفس؛ لذلك لم يلتف حوله الناس و لم يؤآزره و لم يُؤيّد مشروعه أكثر آلمحيطين به من المراجع و الطلبة, خصوصاً التقليدين منهم, بل عارضوه كما عارض و شاكس المشركون و آلمنافقون رسول الله(ص) و تنكروا لوصيته و (آلأجر) الذي طلبه منهم(5) و إلى يومنا هذا رغم إدعائهم بآلأسلام و إيمانهم الظاهري بالمرجعية ألحقيقيّة, لذلك نراهُ(قدس) و منذُ أنْ طرحَ و أعلن على الناس مرجعيتهُ في بداية ألسّبعينات؛
 أصبحَ يعيشُ بين نارين؛
نار حزب آلبعث ألجّاهل,
و نار ألحوزة ألتّقليديّـــة,
و الّلذين عارضا منهجه و سعيه في تطبيق منهجه و إقامة الحكومة الأسلاميّة لنشر العدالة في ذلك الوسط المتخلف آلآسن بأنواع الخرافات و الأوبئة و آلترسبات الفقهية المتحجرة و العشائريات و  القبلية و القومية و التقليد الأعمى و إلى يومنا هذا!

إنّ سّبب كلّ تلك آلمآسي و المواجهات و المحن أمام مشروع الصّدر الأوّل و إنتصار (التقليديون) على (الحقيقيون) يعود إلى:

أولاً: سعيهُ – أيّ آلصّدر ألأوّل - لطرح منهجٍ جديد مُتكامل في إطار (ولاية الفقيه) لعرض ألأسلام (ألحقيقيّ) بدل (ألتّقليدي) ألشّكليّ ألذي تعارف عليه أهل ألعراق و آلحوزة لقرونٍ طويلةٍ من دون أثرٍ إيجابيّ فاعل في واقع آلأمّة أو الفرد تُحقّق أهداف ألرّسالة الأسلاميّة على أرض الواقع ضمن مشروع ألحكومة الأسلامية التي للآن لا يفهم فلسفتها و أهميتها و أبعادها كلّ المراجع آلتقليديون إما جهلاً أو تجاهلاً!

ثانياً: ألحسد و آلغيرة ألتي حملها ألتّقليديون خصوصاً بعد النّجاح العظيم للثورة الأسلاميّة المباركة عام 1979م, و لكونهم – أي التقليديون - آلأكثريّة ألّتي كانت تُسيّطر على مؤسسة ألحوزة و أموال ألخمس و آلزّكاة(6) و آلإدارة و آلشّارع ألعراقيّ؛ فقد أدّى هذا الوضع ألمتأزم إلى محاربته و تضيّق ألخناق عليه و تحجيم حركته التي كانت تمثل حركة (ولاية الفقيه) من قبل جهاز ألمرجعيّة ألتقليديّة المتمكنة جنباً إلى جنب مع آلبعثيين ألجّهلة ألمجرمين من آلجّهة ألأخرى.

ثالثاً: قصر الفترة الزمنية التي تصدّى فيها الصّدر الأوّل لزعامة المرجعية الحقيقية, بجانب شهادة أكثر طلابه الأفذاذ الذين تصدوا لعملية تبليغ الحقّ في مساجد و مدن العراق بما فيها العاصمة, و من هؤلاء الشيخ ماجد البدراوي الذي ترجم كتابا هاماً للشيخ مطهري بعنوان: (الدين شمس لن تغيب), و كذلك الشيخ العلامة عبد الجبار البصري الذي كان إماماً لجامع السلام في منطقة الطوبجي ببغداد, و غيرهم كثير!

رابعاً: ضعف ألتدين في الشّخصية العراقية و تغلّب الجانب العاطفي على العقائدي, و ضمور الجّانب العرفانيّ في آلأتجاه الأيماني لدى المقلّدين التقليديين بسبب محدودية المنهج و الفهم الكليّ ألمتداول لفلسفة آلأسلام بين الطرفين؛ المُقلِّدين و آلمُقلَّدين!

و بسبب تلك الأسباب مجتمعةً .. خصوصاً تدني مستوى الوعي و الثقافة و الفكر و الدِّين في العراق عموماً؛ لذلك صعب على الناس حتى الأوساط العلميّة و آلدّينية من إستيعاب فكره و منهجه ألأصيل!

بل المؤسف له حقّاً إنّ رئيس الحزب الأسلاميّ ألأكاديمي ألمدعو ألدكتور (محسن عبد الحميد), بدلَ أنْ يكتبْ تمجيداً و تعريفاً بأهمّ كتب ألصّدر ألأوّل و هو كتاب (فلسفتنا)؛ نراه كتب ردّاً تافهاً فيه الكثير من الأكاذيب و التهم و آلأفتراآت و آلمغالطات بحقّ ذلك آلكتاب(7) بتواطؤ مع البعثيين الجّهلاء الظالمين, بينما الفلاسفة الشرقين و الغربين من خارج العراق عرفوا قيمته و قدره و على رأسهم الدكتور التيجاني السّماوي و الفيلسوف روجيه(رجاء) غارودي و غيرهم كثير!

فكيف إذن يُمكن أنْ يتثقّف مثل هذا الشّعب إذا كان آلمراجع و الأكاديميون فيه يُكذّبون و يُزورون و يطمسون الحقائق من أمثال هذا الدّاعية آلأسلامي "المثقف" الذي يقود حزباً بكامله في العراق!؟

و ليس هذا فقط .. بل إن المعممين في الحوزة التقليدية أنفسهم كانوا يُحاربونه على كلّ صعيد و ينعتونه بشتّى التّهم و الأكاذيب, كتدخله في السّياسة أو بكونه يُريد الحكم أو صاحب العمامة الحمراء و آلتنابز بحقه و لعل بعضهم كتب التقارير عنه للمخابرات و آلأمن!

 

يقول ألسّيد آية آلله ألعظمى محمود ألشّاهرودي؛
[بدأ آلشّهيد ألفقيه ألفيلسوف يُعرفُ للملأ .. خاصّة على صعيد طلّاب ألجّامعات و آلأوساط ألعلميّة و الأكاديميّة و آلجّيل ألصّاعد خصوصاً من آلطلبة ألّلبنانيين و آلأجانب – بوصفه فقهياً فيلسوفاً شاباً في مقتبل عطائه ألعلميّ, مع ما يحملهُ من فكرٍ حديثٍ و واسعٍ, و قد ساهم في ترسيخ صورتهِ و مكانتهِ لدى هذه ألطبقة ما صدرَ عنهُ في تلك آلمرحلة من مؤلّفات, من قبيل كتاب "فلسفتنا" و "إقتصادنا"(8)و قبلها آلمقالات ألّتي ترصّعتْ بها مجلة "ألأضواء", أمّا بآلنّسبة لي فقد إنتظمتُ بعد الثانوية في سلك ألحوزة ألعلميّة, و منذ ذلك آلحين عرفته مفكراً إسلاميّاًّ,إلى أنْ وصلتُ إلى مرحلة ألسّطوح – و على وجه أّلتّحديد ألسّطوح ألعليا – حيث حضرتُ على بعض طلابه ألمرتبطين به, و قد قادني ذلك إلى إرتباطي به شخصيّاً, فعلاقة ألأستذه و آلتلمذه تحرز على أهميّة بالغة في بنية ألنّظام ألحوزويّ, و قد نَجمَ عن ذلك أنْ وفّقتُ للأطلاع من قرب على ألشّهيد فقيهاً و فيلسوفاً](9).

 

لقد علّق آلفقيه ألفيلسوف على تلك ألحادثة – طبع كتاب فلسفتنا - بآلقول:
[حينما طبعتُ كتاب فلسفتنا؛ لم أكنْ أعرف أنّه سيكون له ذلك آلصّيت ألعظيم في كلّ آلعالم, ممّا يؤدي إلى تعريف و إشهار من ينسب إليه الكتاب, و كنتُ أفكر أحياناً فيما لو كنتُ مطّلعاً على ذلك آلمستقبل, و على مدى تأثيره في إعلاء شأني بين الناس؛ فهل كنتُ مستعدّاً لطبعه بإسم جماعة ألعلماء و ليس بإسمي كما كنت مستعداً لذلك أو لا!؟ و أكاد أبكي خشية أنّي لو كنتُ مُطّلعاً على ذلك .. لم أكنْ مستعداً لطبعه بغير إسمي](10).

هنا يُمكننا أن نرى بوضوح حقيقة الأخلاص و الصّدق و آلتفاني لكيان الأسلام و للأنسانيّة ألمتجليّة في كلام و نية و تعامل هذا العالم الرّباني مع الله و الناس و آلأسلام الحقيقي و مع نفسه قبل أيّ شيئ أو وجود آخر!؟

 

و لذلك فإنّ ألشّهيد ألأمام ألفقيه ألفيلسوف لم يكن فقط (فقهياً للفقهاء و فيلسوفاً للفلاسفة)؛ بلْ كانَ بآلأضافة لذلك يمتلك قوى جاذبة ذاتية راسخة عديدة في شخصيته كان يفتقدها جميع أقرانه "ألعلماء" و من سبقه في مضمار التعاطي مع منصب ألمرجعيّة و آلنّظر للأسلام و آلتّعامل مع آلأنسان و آلمجتمع؛ حيث كان يمتلك جاذبيّة إستثنائيّة, و كانتْ أخلاقه و تواضعه في غاية ألرّفعة ناهيك عن محبّته الجّياشة لجميع الناس, خاصة تجاه طلّابه و آلعاملين في آلحركة ألأسلاميّة بجانب حبّه و عشقه الخاص للأمام الخميني الذي تمنى أن يكون و لو ممثلاً صغيراً له من خلال دولة الأسلام المباركة!

كان يبكي لمجرّد سماعه إستشهاد عضو حركيّ على أيدي جلاوزة ألبعث ألهجين ألجّبان و يحزن كأنّه فقد أحد أبنائه و ليس إنساناً لا يعرفه و لم يسمع به!

كان يحترم ألجّميع و يتعامل معهم بآلقلب و ليس بآللسان و الظاهر كما يفعل الناس .. بلْ يتفانى في إستقبال ألضّيف و إكرامه و مُرافقته أثناء آلتّوديع حتّى عتبة ألباب متجاوزاً بذلك ألمستوى ألماديّ و آلعلميّ و آلّلون و آلعرق كمعايير تعوّد آلنّاس على ممارستها و وضعها بآلحسبان بسبب الأعتبارات و المقايس العشائرية و القبلية الخاطئة التي سادت بسبب بُعدهم عن القيم و الأخلاق الأسلامية لتقييم ألأنسان, و كان طلابه يعتبرونهُ بمثابة ألأب الرؤوف الرحيم لهم .. بلْ أكثر من ذلك بحسب تصريح ألسّيد ألهاشميّ ألشّاهروديّ, كان يدخل قلب كل إنسان على الفور لمجرد السلام عليه و التحدث معه,  و قد تجلّى ذلك في تعامله ألأخلاقيّ ألرّفيع الذي شهد له آلجّميع بجانب شدّة تواضعه و تجافيه عن مقاعد ألكبر حتّى إنبهر البعثيون به رغم إنهم كانوا مبعوثين للتفاوض معه من قبل صدام المجرم!

 

أمّا في آلمجال ألسّياسيّ؛ فكان يلجهُ كواثق ألخطى و يُصالح مسائله بشكلٍ مُفصّل و يُعطي رأيه في كلّ حادثٍ و حديثٍ و موقف, و كان يتعامل مع مواقف ألنّظام إزاء آلحوزة ألعلميّة و آلمرحوم ألسّيد ألحكيم بكلّ دقّة و حساسيّة و قبل إستلام ألبعثيين للحكم مرّة ثانية(عام 1968م) كان للسّيد ألحكيم مكتبات إسلاميّة عامّة معروفة و منتشرة في أغلب ألمحافظات ألعراقيّة, عرفت بمكتبات ألسّيد ألحكيم مع وكلاء له في كل المدن و الأقضية و المحافظات!


و كانت تلك آلمكتبات تحمل عنوان (ألمكتبة) و لكنها في آلواقع كانت بآلنسبة إلى طلاب ألجّامعات و آلعلماء ألمتواجدين في تلك آلمناطق بمثابة ألمراكز ألّتي تنتظم فيها آلصّفوف و تعقد فيها آللقاآت و تطرح فيها أحداث ألسّاحة بأعلام ناشئة ألمسلمين بما يجول حولهم في آلعالم, و لممارسة أعمال ألدّعوة و آلتبليغ في أوساط ألنّاس.

ألّذي نريد ألوصول إليه من آلنّقاط ألتي إستعرضناها هو؛ كان أستاذنا يسعى لتطهير الحوزة من آلفساد و التقليد  الأعمى برسم منهج معرفي و إصوليّ جديد يهدف إلى تربية طلّابه تربيةً حقيقية و تنشئتهم نشأةً صالحة و في بيئة فكرية متينة متماسكة و غير ضحلة كما إعتاد بقية أبناء الحوزة على ذلك و في وقت و جهد قياسي لنشر الأسلام الحقيقيّ و تحقيق الدّولة الأسلامية, متبنّياً في ذلك ألرّؤية ألمنهجية لتثوير الفكر الأسلامي و إعتماد سياسة ألتّأني و آلتّريث و عدم إثارة ألضّجيج, ليكون بعمله هذا قد أعدّ قادةً حقيقيين لأخذ زمام ألمبادرة في آلسّاحة و أوساط الجماهير.

عندما تلتقي خصالٌ من هذا آلقبيل و تلتئم في أستاذ يفوح منه آلصّدق و أريج ألعاطفة ألجّياشة و آلفكر ألمُتجدّد و آلأخلاص ألمنقطع ألنظير؛ فمن ألطّبيعيّ أنْ يتحوّل إلى قبلة عشق تؤمّها أفئدة ألطلاب و آلمُريدين و العلماء و منهجاً يرتوي منه المخلصون!
لقد كان بحقّ يتمتّع بفكرٍ ثاقبٍ و عميقٍ و إخلاص فريد و أخلاق عالية و تواضع قلّ نظيره أهلّتهُ بأنْ يكون فقيه آلفقهاء و فيلسوف ألفلاسفة بإقتدار.

 

لماذا و كيفَ و متى طرحَ آلسّيد ألشّهيد مرجعيّتهُ؟

يعتبر إعلان ألصّدر ألأوّل لمرجعيته و بيان أطروحته ألجّديدة شهادة كاملة بحدّ ذاتها على إنحراف الحوزة التقليديّة القديمة, و للوقوف على حقيقة ألموقف و آلظروف ألّتي سبّبتْ و رافقت ذلك الأعلان ثمّ بروز مرجعيّة الحقّ و النيابة العامّة للأمام ألفقيه ألفيلسوف في العراق .. و لأجل ذلك لا بُدّ لنا أن نعود أدراجنا إلى زمن وفاة آية الله ألعظمى ألسّيد محسن ألحكيم(قدس)(11) لنسلّط آلضّوء على آلدّوافع و آلحيثيات ألّتي وقفتْ خلف أعلانه و دخوله ساحة ألنّشاط ألمرجعي بعد مضي ما يقرب من سنة كاملة على تصدي السّيد الخوئي لزعامة الحوزة العلمية و المرجعية الدينية.

بدايةً؛ علينا أن نضع في الحسبان بأنّ آلهدف ألأساسيّ المحوري للأمام ألفقيه ألفيلسوف في فهمه للفكر الأنساني و تعاطيه مع الأسلام المحمدي الأصيل؛ هو إعطاء ألمؤسسة ألمرجعيّة زخماً جديداً و دوراً رائداً و فعّالاً في عمليّة آلتغيير و ألصّراع مع آلأنظمة الحاكمة آلباطلة و إعطاء الأولوية لمسألة (ألأمر بآلمعروف و آلنّهي عن ألمنكر) التي كانت عاطلة تماماً لإرجاع حقوق الناس و ضمان كرامتهمب!

فأراد من خلال تصدّيه لها شخصيّاً تحقيق ذلك الهدف بنفسه, لا غير, لأعتقاده (قدس)؛ (بأنّ الله يزع بآلسُّلطان ما لا يزعهُ بالقرآن وحده), فرافقتْ تلك آلستراتيجية ألكبيرة أموراً عديدةً سنُبيّنها قدر آلأمكان بإذن الله.

 

ألحقيقة كان هناك عاملان رئيسان وقفا و إتّفقا معاً لبلورةِ قرار التصدي الكبير لدى أستاذنا عام 1972م ليتّخذ طعماً و منحىً آخر يختلف تماماً عمّا كان سائداً لدى الوسط التقليدي - ألعرفي, و أمّا سبب ميلانه في آلبداية للوقوف بجانب آلمرجعيّة ألرّسميّة للحوزة؛ فقد كان بهدف الأصلاح و آلتجديد متأملاً تغييرها و أنقاذها من ترسّبات الفقه المتحجرو مأزقها كنهج بديل سليم لا مناص منه!

و لذلك أعدّ نفسه لتنفيذ تلك المهمة التي تزامنت مع بدء مرجعيّة ألأمام ألخوئي الذي كان قريباً لأفكاره المبدئية و إتفقا منذ البداية على تبني منهج(المؤسسة المرجعية) بدل (التقليدية) مع إلتزامات أخرى عبر تغييرات جوهرية تبدء بتغيير الوكلاء و الممثليين الذين كان يشك بكفائتهم و إخلاصهم للأسلام و غيرها, و لذلك أقدم على دعمه و آلأصطفاف إلى جانبه بكل ثقله و علمه, لأعتقاده في الظاهر و طلابه و كما أشاعوا بين الناس بأعلميته بآلقياس مع أقرانه مُسايراً بذلك ألنهج ألحوزوي ألقديم بآلسّير وراء آلأعلم بعد إنتخابه لتقليده هذا بحسب الظاهر!

و لكن آلحقيقة و آلأسباب التي خفيت على الكثيرين سواءاً خارج إطار الحوزة أو أمام أنظار السّلطة البعثية؛ بشأن قرار التأييد و آلتّصدي لمشروع الدّعم ألأضطراري – دعم مرجعية السيد الخوئي – كانت خلفها أسبابٌ عديدة تنتهي بإختصار إلى:
تنفيذ مشروع المرجعية الحقيقية بدل المرجعية التقليدية التي حاول السيد الحكيم البدء لكسر بعض أطواقها و أطرها الحديدية الكثيرة, و كذلك سحب البساط من تحت أرجل ألشّيخ (علي كاشف آلغطاء) ممثل نظام البعث في الحوزة و المرشح أيضاً لنيل الزعامة!

لكن الأمور و للأسف الشديد لم تسري بحسب ما كان مخططاً له و متفقاً عليه, لأسباب و تأثيرات منها حالة الهوان القسريّة التي ضربتْ بكلكلها على المتصدي للزعامة و تفضيل آخرين غير مؤهلين للقيام بآلدّور الذي كان الصّدر الأول يريد القيام به, و غيرها  من الأحداث المؤلمة التي سنطرحها في الحلقة القادمة مع بيان حيثيات و تفاصيل الأحداث و التطورات المصيرية التي رافقت عملية الأنتخاب الجديد التي دفعت الصدر إلى الأعلان عن مرجعيته بقوة و تصميم كبيرين, و لا حول ولا قوة إلا بآلله العليّ العظيم.

 

عزيز الخزرجي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة هود / 112.
(2) ألآية هي: [... قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى], و هي من ضمن آلآيات الأخيرة التي نزلت في سورة الشورى/23 , كما وردت آيات مشابهة لذلك سبقت تلك الآية, كتأكيد على أن أجر الرسول(ص) لتبليغ الرسالة الأسلامية تتلخص في الوفاء و النصرة لأهل بيته!
(3) حديث عن المعصوم(ع), يبين مكانة العمل في الاسلام, و يشير إلى عدم جدوى وجود ألف مرجع لا بل مليون عالم و مرجع أعلى بدون عمل!
(4) من المعروف إن ناقة صالح عقرها شخص واحد, لكن العذاب شمل جميع القوم, لكونهم مهّدوا و شاركوا في آلتمهيد  لذلك الظلم, و لم تقع مسؤولية الجريمة و كذا العذاب الألهي على شخص المرتكب وحده!
(5) بإتفاق المفسرين و المؤرّخين أنّه حين رآى المسلمون حزن رسول الله و بكائه في آخر أيامه و تكراره للآية 23 من سورة الشورى؛ (
ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ۗ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)(الشورى / 23), ظنّ الناس بأنّ الرّسول يُريد أجراً على تبليغه لرسالته, فأغدقوا عليه العطايا و آلمال و المؤونة, لكنه(ص) بكى و عاتبهم, ثمّ قال لهم: (يا قوم أنا لا أريد أجراً كهذا بل أجري هو الوفاء و المودة و آلنّصرة و المولاة لأهل بيتي من بعدي).

 
(6) للأموال دور كبير في ترسيخ و تثبيت أي مرشح جديد لزعامة ألمرجعية بدءاً بداخل الحوزة و إنتهاءاً بآلناس العاديين, فبعد أو حتى قُبيل وفاة المرجع المتصدي السابق نرى أن الذين يرشحون أنفسهم لهذا المقام يُحاولون تكثير العطايا و زيادة رواتب الطلبة كدعاية إعلامية لكسب الأنصار لتحقيق النجاح و الشهرة عن طريق ذلك, و لذلك فأن الذي يستطيع أن يعطي أكثر هو آلذي يكسب أكثر و يكون حظه أكبر في النجاح!
(7) ألف كُتيّبٍ صغير مكوّن من سلسلة من النقاط بعنوان: ألرّد على كتاب (فلسفتنا) أدرج فيه بعض النقاط التي إختلقها بنفسه محاولاً إظهاره بسيطاً و سطحياً و لم يُعالج آلأشكالية التي واجهها الأسلام مقابل النظريات الماركسية أو القومية,  و أخطأ بحق النظرية الفلسفية القومية!

(8) عندما كتب آلشّهيد ألفقيه ألفيلسوف كتاب"فلسفتنا"؛ أرادَ طبعهُ بإسم جماعة ألعلماء في آلنّجف ألأشرف, بعد عرضه عليهم متنازلاً عن حقّه في وضع إسمه آلّشّريف على ذلك آلكتاب ألعظيم, إلّا أنّ آلذي منعهُ من ذلك .. هو؛ أنّ جماعة ألعلماء أرادتْ إجراء بعض ألتّعديلات في موضوعات ألكتاب ألمذكور, و كانت تلك آلتّعديلات غير صحيحة في رأي ألأمام ألفقيه ألفيلسوف,فأضطرّ أن يطبعه بإسمه".

(9) ورد في آلمقابلة ألخاصة مع سماحة آية الله العظمى ألسّيد محمود الشاهرودي عام 2006م, راجع تفاصيل ألحوار في مجلّة (شاهد ياران) تصدر في إيران, ألعدد18 أرديبهشت 1386ش 2007م.

(10) مجلّة (شاهد ياران) تصدر في إيران, ألعدد18 أرديبهشت 1386ش 2007م.

(11) تسنّم آلسّيد محسن ألحكيم(1889 –1970م) ألمرجعية العامة للشيعة بعد وفاة آية آلله ألعظمى حسين ألبروجردي، و أخذ بوضع نظام إداريّ للحوزة يختلف قليلاً عن آلسّابق, وشرّع ببناء ألمدارس و إرسال ألمبلغين إلى نقاط العراق ألمختلفة, و بهذا آلعمل إزداد عدد ألطلاب في جميع ألحوزات و سرى فيها روحاً جديدة, و أشرف على كثير من آلمجلات ألإسلامية ألتي كانتْ تصدر في ذلك آلوقت, من أمثال مجلة "ألأضواء" ألتي كان يكتب فيها ألأمام الفيلسوف الفقيه و "رسالة الإسلام" و "آلنجف"وغيرها.

كـان آلسّيد ألحكيم منذ أيّام شبابه رافضاً للظّالمين و أعداء ألدِّين و أختلف عمّن سبقوه في كثير من آلأمور و منها الجهاديّة؛ (ألأمر بآلمعروف و آلنهي عن المنكر), حتّى شارك بنفسه في آلتصدي للأحتلال البريطاني الغاشم للعراق, حيث كان مسؤولا عن ألمجموعة ألمجاهدة في منطقة ألشّعيبة في جنوب ألعراق, و كان يعلم بالنّوايا ألخبيثة للاستعمارعندما اخذ يتبع سياسة (فرّق تَسدْ) الطائفية و المناطقية في العراق.

بذل آلسّيد ألحكيم قصارى جهوده في سبيل جمع شمل ألمسلمين من آلمذاهب ألمختلفة, عن طـريـق ألمشاركة في كثير من آلفعاليات ألّتي كان يقيمها أهل ألسّنّة, مشجّعاً إيّاهم في الوقت نفسه على حضورهـم في آلمقابل بالمناسبات ألتي يقيمها آلشّيعة, وعندما أخذ آلحكام ألمرتبطون بالأجنبي بترويج أفكار ألقومية ألعربيّة في آلعراق؛ قام آلسّيد بالتصدي لتلك آلأفكار,و قاوم كلّ اشكال ألتّعصب و آلتمييز ألطائفي و آلعرقي في آلعراق, و خير شاهد على ذلك إصداره ألفتوى ألمعروفة بحرمة مقاتلة ألاكراد في شمال ألعراق, لأنهم مُسلمون,تجمعهم مع آلعرب روابط ألاخوّة و آلدّين.

لهذا فقد فشل آلنظام ألعراقي في آلحصول على فتوى شرعيّة من علماء ألدّين لمحاربة ألاكراد في آلشّمال, و مـن مواقفه ألسّياسية ألأخرى دعمه لحركات ألتّحرر في آلعالم ألإسلامي, و على راسها حركة تحرير فلسطين, و أصدر بهذا الخصوص ألعديد من آلبيانات ألتي تشجب ألعدوان الصهيوني, و تؤكد على ضـرورة الوحدة الإسلامية, لغرض تحقيق الهدف الاسمى, و هو تحرير القدس من ايدي الصهانية المعتدين.

و رغم كلّ هذا إلّا أنّه لم يكن يمتلك منهجاً كاملاً لتحكيم الأسلام عبر حكومة إسلاميّة, ربّما لم تكن فكرة ألحكومة ألأسلاميّة ناضجة لديه في ذلك آلحين, على أي حال تلك مؤآخذه كبيرة يُمكننا إثباته عليه, حيث لم يكن يفكّر في ذلك أبداً, بلْ لم يعر أيّة أهميّة للزيارات ألتأريخية ألتي قام بها آلزعيم عبد الكريم قاسم عام 1959م و كذلك عام 1960 و 61 حين وضع إمكانات ألحكومة العراقية كلّها تحت تصرفه طالباً منه قيادة و توجيه الحكومة, لكنه قال لمقرّبيه ألذين كانوا يُحيطون به في مستشفى الجمهوري بعد إنتهاء زيارة ألزّعيم و مغادرته لمستشفى الجمهوري في بغداد: [ لا تُصدّقوه فأنّه منافق]! و بذلك خسّرتْ ألمرجعيّة ألأسلامية و بآلتالي ألأمّة كلّها فرصة ذهبية كان يمكن لو تمّ إستغلالها تقديم الأسلام قروناً إلى الأمام.

 

محرر الموقع : 2014 - 10 - 31