التطرّف الإسلامي... مصدر واحد وأهداف موحدة...
    

بقلم: مصطفى قطبي
لقد أصاب التطرف جوانب كثيرة ومتعددة في حياة الأمة العربية، إذ لم يقتصر على الجانب الديني، بل شمل الجوانب الثقافية الفكرية والسياسية والاجتماعية، بحيث أصبحت معالمه وأشكاله تظهر في السلوك العام واليومي، والتفاعل متعدد الأوجه في الحوار والكتابة، وحتى في المدارس والجامعات وساحات العلم وندوات الحوار.
ويتجلى أحد أهم الآثار العميقة للتطرف في اللغة السياسية المتبعة من قبل بعض أنظمة الحكم العربية، ولاسيما منها الخليجية ومنتجات ما يسمى بـ \'\'الربيع العربي\'\' في تعميق الخلافات والانقسامات السياسية والمكونات المجتمعية، والتي تصل إلى درجة عدم الاعتراف بالآخر، وترفض وجوده على تراب الوطن، بل وحتى على قيد الحياة، عبر استعمال مصطلحات التكفير والخيانة، مع الدعوة إلى اللجوء إلى لغة الدم والتصفيات الجسدية، وقطع الرؤوس بالسيف، وحتى إعدام الأطفال والشيوخ، وممارسة أشد وأبشع أعمال الإلغاء بأقصى درجات العنف والقوة التي تصل إلى مستوى حرب الإبادة التي لا نهاية لها ولا أفق...
 فضائيات ومحطات ومراكز الكترونية إخبارية تبث السموم ليل نهار بهذا الاتجاه، عبر أخبار وتحقيقات ومعلومات مفبركة، يشرف عليها خبراء متخصصون في النواحي النفسية والإعلامية للتأثير على عقل وتفكير وسلوك المواطن العربي، مستخدمة في ذلك أحدث ما توصل إليه العلم من خبرات وتقنية في هذه المجالات، وعلى سيل متدفق من أموال النفط العربي لتخريب العقول والنفوس... إلى جانب ذلك، تعقد مؤتمرات وندوات تضم عتاة المتطرفين وشيوخ الفتنة ممن باعوا أنفسهم للشيطان لقاء المال، ليقوموا أيضاً بالتحريض الطائفي والدعوة لإلغاء الآخر، تحت مسميات مختلفة.

 والسؤال الآن: إذا كان القرآن الكريم كتاب هداية ووسطية وإذا كان القرآن صريحاً في آياته البيّنات بنقد التطرف الديني والمغالاة في الدين، (قل يَا أَهل الكِتابِ لاَ تغلوا فِي دينِكم غيرَ الحقِّ وَلاَ تتبِعُوا أَهوَاء قَوْمٍ قَد ضَلّوا مِن قَبل وأَضلوا كَثِيراً). (المائدة 77).

فمن أين وكيف نشأت ظاهرة التطرف الديني في واقعنا العربي والإسلامي؟

لاشك بأن للتطرف عوامله وأسبابه المتعددة، فهو يتكون نتيجة لجملة ظروف سياسية واجتماعية معقدة، وقد يكون في بعض الأحيان رداً على تطرف آخر مخالف له في الاتجاه ومساوٍ له في المقدار، وهناك تطرف أحزاب وتطرف جماعات، وهناك تطرف ناجم عن التسلط وعن الإبعاد والتهميش والإقصاء، وبالتالي ينفجر الشعور بالقهر هذا عنفاً لفظياً ونمطاً ثقافياً وتعبيراً فكرياً، أما أن يصل إلى حالات التكفير ونفي الآخر والسعي لتصفية هذا الآخر لمجرد العرق أو اللون أو الجهة أو الدين، أو المذهب، أو الاتجاه السياسي، فهذا من أخطر الآفات المجتمعية، بخاصة أنه يتحول إلى ميل متنام نحو استعمال القوة.
هذا ومن أخطر آثار التطرف أنه يصبح وسيلة للاختراق والاستغلال من قبل القوى الكبرى والإقليمية والأجهزة الاستخباراتية التابعة لها، وذلك بسبب سهولة وقوع المتطرفين في المصائد المعدة لهم بطريقة محكمة، لاسيما بعد شحنهم بأفكار وآراء تعتمد على تحريف النصوص الدينية وتأويل البعض منها بشكل خاطىء من أجل تحقيق أغراض سياسية أو مطامع شخصية، لأن التطرف بالأساس يكون قائماً على الأنماط السطحية والساذجة وغير العميقة في الفهم والتفكير، الأمر الذي يجعل التطرف ينتشر بسرعة مع انتشار عدم الوعي بالدرجة الأولى، كما تنتشر النار في الهشيم.
وغالباً ما يتم التعبير عن هذا التطرف بتبني شعارات مضللة ومزيفة، واستعمال اللهجة العاطفية المؤثرة القادرة على دغدغة عواطف الشباب المراهقين الذين يعانون من فراغ ثقافي وفكري، ويشعرون بالتهميش، وضياع الهوية، وفقدان الهدف، واختلاط الغايات وسط ضخ إعلامي هائل ومبرمج يجعل مثل هؤلاء ينساقون مع ذلك الضخ، دون أن يميزوا بين الغث والسمين بعد أن أجريت لهم، وبالتدريج، عمليات غسل دماغ مخططة ومبرمجة...
وإذا ما جئنا إلى ما يجري في عدة بلدان عربية، وجدنا أن التطرف يمارس بأبشع أشكاله من قبل مجموعات إرهابية مسلحة، وهؤلاء العناصر مدربون عسكرياً، والأهم أنهم معدون آيديولوجياً وفكرياً باتجاه نفي الآخر إطلاقاً كإنسان، لا يرون إلا أنفسهم بعد أن غسلت أدمغتهم وشحنوا بمعتقدات وآراء مزيفة وبعيدة عن أصول الدين وعن الشريعة الإسلامية السمحاء، والشواهد أكثر من أن تحصى، فما معنى أن يعدم طفل في الخامسة عشرة من عمره بتهمة الكفر؟ وما معنى الذبح بالسيف وتقطيع الأوصال؟ ما معنى أن يلتهم أحدهم قلب جندي سوري؟ أليس هذا أشد أشكال الوحشية والتطرف والانحطاط الأخلاقي والقيمي؟
فالعقل المتطرف الديني الذي يخلق ويعيش في هذا العالم، يتوهم فيه الفرد أنه يستعيد قوته وأهميته في المجتمع ويجد هوية ولادة جديدة له تنهي كل ما ارتكبه من معاصٍ في الدنيا سابقاً، فيولد من جديد حسب اعتقاده وتوجيهات منظريه بشخصية جديدة تجد التقدير والتبجيل والأهمية واعتماد الغير عليه ولعب أدوار قيادية أحياناً لم يستطع أن يلعبها في حياته الاعتيادية في مجتمعه الأم، إذاً هي في حقيقة الأمر وهم خلاص روحي وتوبة متوهمة يفقد فيها المتطرف الإرهابي إنسانيته لتركيزه على ديمومة المصير في جنة الخلد، فالرحلة الحياتية نفسها ليس لها معنى وكل الإجراءات والممارسات لا تعني له شيئاً حسبما وجّهه أمراؤه وقادته، ولذلك أعطى نفسه الحق المطلق في أن يقتل ويخطف ويخرب ويسرق ضمن خطة القدر التي يؤمن بها، حتى يصل به الاعتقاد إلى أن المسلم المقتول في العمليات الانتحارية والتفجيرات الأخرى قد \'\'خرج عن الملة والدين، وأنه كافر\'\' وأن القاتل قتله \'\'بدافع نية الشهادة من أجل رفع راية الإسلام عالياً\'\'.
إذاً يبدو لنا جلياًً أن التطرف من أسباب الإرهاب، ولذلك أسباب هامة هي جهل من يقومون بذلك، واستغلال من يفتون لهم... ‏‏ فمن يفتي ولماذا ؟‏‏

إنّ أكثر من نتابع فتاويهم وبدعهم وأقوالهم وتفسيراتهم، وبخاصة في الأمور الدينية هم إما أميين، وإما أنصاف أميين، سموا أنفسهم قادة وأمراء في الفكر السلفي المتطرف، وهم لا يملكون من الفقه الشرعي إلا إسمه، وبعض الجمل السهلة الحفظ والمتكررة، ليتحولوا إلى نجوم في القنوات التلفزيونية والفضائيات والمواقع الإلكتروني!‏‏

وأسباب ذلك مزروعة في المجتمع الذي تحيط الجاهلية والجهالة فيه من كل جهاته، مما أدى إلى انتشار الأفكار الدينية الهامة، المبنية (على الشرع) شكلا، والخالية منه مضموناً، ليصبح بؤرة جاهزة ومستعدة لانتشار التزمت الفكري، وبالتالي السلفية الفكرية، وكان الحاضن الأهم لها ـ جماعة الأخوان المسلمين ـ في مرحلة منتصف القرن الماضي، هذه الجماعة التي تشرذمت مع بداية القرن الحالي، وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، لتصبح أمماً وخلائق، أمراء وحكام وقادة ومفتون.‏‏
وأين المرجعيات الدينية الحقيقية؟‏‏

يقودنا الحديث هنا إلى غياب المرجعيات الفكرية والدينية وهو السبب الرئيسي لظهور (أصحاب البدع والفتاوى) والذين أكدنا أميتهم في البداية ـ ومن هنا ـ ومن خلال قيادتهم لمجموعات أكثر أمية منهم صاروا مجموعة من السلفيين قيادة وقاعدة، جاهزة للعمل ضد ـ السلطات القائمة ـ بغض النظر عن انتماء هذه السلطات دينياً أو قومياً، لأن هدف هذه الجماعات المتطرفة في النهاية هو خلق وزرع الفوضى كحل، أو كبديل للنظام القائم، وبالتالي لا تهم نتيجة ما يحدث من إرهاب أو قتل، أو تدمير، بل المهم هو هذه الحالة الفوضوية، والمرعب فيها أن وقودها هم الشباب المتحمس البريء أحياناً والمندفع أحياناً أخرى باتجاه مكاسب مادية ودنيوية سريعة، قبل أن تتحفنا (بدعهم وفتاويهم) بالجوائز الكبرى في الجنة (من الحوريات والغلمان)، وكذلك في الدنيا من ـ ممارسات جنسية ـ بأشكال متعددة، سمحت ودعت إليها الفتاوى، بل وحضت الشباب على (الجهاد) من أجل هذه المكاسب.‏‏

من يواجه...؟ وما هو الحل... ماذا نفعل؟‏‏

أعتقد أن الدور الريادي والحقيقي الذي تتطلبه هذه الحالة هو دور المثقف الواعي في التصدي لهذه الظاهرة، ويبدأ التصدي بتحليل هذه الظاهرة، وإظهار أدواتها والتعريف بأخطارها، وانعكاساتها السلبية على المواطن والوطن، وبالتالي إيضاح الحقيقة وإفهامها للقطيع الذي لا يدري أين يقاد، وبدء العمل في إيجاد بديل ٍ لمن يدعون (العلم والفتاوى، والمعرفة بالشرع) وهم الجهلة الحقيقيون.

والبديل الوحيد هو المثقف الواعي، ورجل الدين الواعي والمتبصر بالوضع القائم، والذي يكون قد تربى تربية دينية حقيقية لا تعصب فيها، ولا بدع، متكئاً على الإرث الديني الإسلامي الصحيح، ومبتعداً في الوقت نفسه عن الاجتهاد الإرهابي المدمر الذي ينحو إلى مقاصد لا علاقة لها بالدين أبداً.‏‏

ومن الطبيعي أن تكون لدى المثقف رؤيا واضحة ومتكاملة، من أجل التغيير، وأن تكون أدواته ثقافة وقدرة على التأثير في الجماهير، ولو واجه الصعاب في ذلك، لكن شرط وجود الدافع لدى المثقف هنا مهم جداً، وإلا اضطر إلى الانسحاب وتهميش دوره، وكذلك رجل الدين الحيادي، أو ستكون النتيجة: خلو الساحة أمام الجهلة وأنصاف المتعلمين والدعاة الدجالين،‏‏  في هذا الزمن الصعب الذي تكثر فيه الجهلة ويطوفون على السطح.‏‏

كما أنه من المهم أن يكون لهذا المثقف، ولذاك المتدين، دور، وحضور على المستوى الشعبي، لكي يتمكنوا من تمرير أفكارهم؟ وبالتالي التأثير في المجتمع، ومنعه من الانجرار إلى التهلكة الموعودة بالجنة، والتي يمكن تعريفها ببساطة بالإرهاب.

فهل يعي دعاة التطرف والتكفير في عالمنا العربي خطورة هذه المؤامرة المكشوفة، حيث أصابع الاحتلال قابضة على زناد التطرف الديني من أقصى الغرب إلى أدنى الشرق، ومن أدنى الجنوب إلى أقصى الشمال لتظل حاكمية العدالة هي الضحية الكبرى لفوضى عولمة لا تنتعش أو تتسع إلا بفوضى الهويات وتفجير تناقضات الخصوصيات الدينية والعرقية من الداخل؟

وهل يعي دعاة الاستسلام والارتهان للمشروع الأمريكي في عالمنا العربي خطورة التفريط بثقافة المقاومة وثقافة الوحدة الوطنية بوصفها مقاومة لمنطق الحرب الأمريكية الجديدة المدججة بسيناريوهات التجزئة والتقسيم وتمزيق الأوطان؟

وفي ضوء ذلك يجدر بمراجع الأمة الإسلامية ومؤسساتها الفقهية رفع الغطاء عن الحركات الإرهابية المتطرفة ومحاكمتها وفضح مصادر تمويلها التي اخترقت الأمن الوطني العربي بمخالب الجرائم التي تقتل ـ بالأجرة ـ أو تقتل بالانتحار المبرمج بآيات من تأويل القرآن وتزوير قيمه الأخلاقية في واضحة الجمعة والنهار. ‏

كذلك تبدو القرابة أوضح بين تلك الفلسفة السياسية التي أبادت الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية تحت لافتات الحرية والديمقراطية، وبين فلسفة التنظيمات الإرهابية الإسلامية المتطرفة التي ترفع اليوم شعار ـ لا حكم إلا الله ـ على جماجم خلق الله وأشلاء عباده المفجوعين بهذا التدين التكفيري الأسود. ‏

محرر الموقع : 2014 - 12 - 21