قِفْ..لا تَنْشُرْ (٣) والاخيرة
    
  نــــــــــزار حيدر
   لقد عالج القرآن الكريم قضيّة التّعامل مع الخبر من جذورها من خلال رسم الحدود الصارمة التي تعتمد العقل اولاً واخيراً، فالعقل السليم يتعامل مع الخبر بشكلٍ سليم، والعكس هو الصحيح، فالعقل المريض لا يتعامل مع الخبر الا بطريقةٍ مريضةٍ، فلقد ورد مثلاً عن امير المؤمنين عليه السلام معيارٌ في ذلك بقوله {وَلاَ تُحَدِّثِ النَّاسَ بِكُلِّ مَا سَمِعْتَ بِهِ، فَكَفَى بِذلِكَ كَذِباً} لماذا؟ يجيب عليه السلام في قول آخر {الْكَلاَمُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ، فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ، فَرُبَّ كَلِمَة سَلَبَتْ نِعْمَةً [وَجَلَبَتْ نِقْمَةً]} لانَّ الامام عليه السلام يرسم بذلك حدود مسؤولية التعامل مع الخبر، فقال يوصي ولده الحسن السبط (ع) {لاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ، [بَلْ لاَ تَقُلْ كُلَّ مَا تَعْلَم] فَإِنَّ اللهَ سبحانه قد فَرَضَ عَلَى جَوَارِحِكَ كُلِّهَا فَرَائِضَ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ولكل ذلك يرفض الامام التعامل العبثي مع الخبر او طريقة النقل المجرد قبل التثبّت والتعقُّل والتفكير ما اذا كان الوقت مناسباً لنشره ام لا؟ فقال عليه السلام {اعْقِلُوا الْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَة لاَ عَقْلَ رِوَايَة، فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ، وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ} فطريقة التعامل مع الخبر تعبّر بشكل أو بآخر عن طريقة تفكير المرء وكذلك تعبّر عن شخصيّته، فالعاقل قلّما ينقل خبراً ما، أمّا غيره فتراه ثرثاراً يتناقل الاخبار ويكثر من الكلام بمناسبة وبغير مناسبة، فقال عليه السلام {إِذَا تَمَّ الْعَقْلُ نَقَصَ الْكَلاَمُ}.
 
   نعود الى القرآن الكريم لنرى كيف رسم لنا حدود التّعامل مع الخبر؟ فقال تعالى مثلاً؛
   اولاً؛ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا.
   فلا نتّبع او نرتب اثرا على ما لم نتأكّد من صحّته ابداً، فليس من العقل ان نتّبع الظنّ او الدعاية او ما اسماه السيد رئيس مجلس الوزراء الدكتور حيدر العبادي بـ (الكذب المتواتر).
   ثانياً؛ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.
   فلنطلب الدّليل من كلّ مَن ينقل لنا خبراً او صورة او فيلماً، فلا نكتفي بثقتنا بالمصدر الاخير فقد يكون المصدر العاشر او ما بعده او ما قبله كاذباً او مغرضاً او غير دقيق.
   ثالثاً؛ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ.
   فالعقلُ يحتّم علينا ان ننشر ونتّبع ونتبادل احسن القول وليس كلّ قول، والا فلو اتّبعنا ايّ قولٍ من دون تمييز او مفاضلة لَضِعْنا في متاهات التناقض بين الاقوال لكثرتها وتعدّدها خاصةً في زمن العولمة الذي نعيشه اليوم، وكثرة وسائل التواصل الاجتماعي التي تنقل لنا الاخبار والصور والافلام كزخّات المطر!. 
   رابعاً؛ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ.
   فكم من خبرٍ ندِمنا على نشره والتعامل معه بعد ان تبيّن لنا انّه كَذِبٌ محض؟ فبدلاً من ان نستغفر الله ونعتذر لهذا وذاك كلّ يوم تعالوا لا نتعامل مع مادة قبل التثبُّت منها، من اجل ان لا نخطأ ولا نعتذر بعد النّدم، ولقد ورد عن المعصوم ان المؤمن لا يخطأ فلا يعتذر وان المنافق يخطأ في كل مرة ويعتذر.
   ولعلّ من الطّرق البسيطة التي يمكننا ان نتبيّن بها من الخبر، هو ان نسأل صاحبه عن مصدره، بلا خجل، فذلك لا يعني انّك تطعن بصاحبه وانّما يدلُّ ذلك على حرصك على معرفة الحقيقة من جانب، وحرصك على مصداقية صاحبه من جانب آخر، فاذا اخطا احدُنا وتعامل مع خبرٍ كاذبٍ او صورة او فيلم مفبرك مرتين او ثلاثة فسيفقد مصداقيّته ولم يعد أحدٌ يعير لما يبعثه من مواد ايّ اهتمام، وبذلك فقد نخسر أشياء جميلة يبعثها لنا لأننا لم نعد نهتم به ابداً، بسبب عدد من التجارب الفاشلة.
   ان ذلك يحتاج الى ان يتحلّى المتلقّي بقدرٍ ما من الشجاعة والصراحة ليسأل عن المصدر او ربما يحتاج الى ان يتتبع الخبر الى النهاية، كما ان ذلك يحتاج الى ان يتحلّى المصدر بقدرٍ من الرّوح الرّياضيّة ليتقبّل السؤال برحابة صدرٍ فلا يعتبر ذلك طعناً به وبصدقيّته. 
   خامساً؛ قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ.
   التريث في ردّ الفعل وتأجيل التعامل مع الخبر للوقت المعلوم فليس من العقل والحكمة ان تنشر كل ما يصلك في اللحظة ذاتها، فقد لا يخدمنا الان الا انّه سيُصيب الهدف في وقت اخر، ولذلك فان نبيّ الله يوسف عليه السلام اجّل عملية التعامل مع الخبر، وهو هنا كلام اخوته الذين كانوا يكذبون عليه ظناً منهم بانّه لا يعرف الحقيقة، الى إشعار آخر على الرّغم من معرفته المطلقة بالحقيقة، كون الوقت لم يكن مناسباً لإبداء رأيه او ايّ نوعٍ من انواع ردّ الفعل، فأجّل قول الحقيقة الى إشعار آخر.
محرر الموقع : 2015 - 02 - 28